«سرت 2» دلالات ذات معنى في عالم الاندماج والعولمة

TT

لم يكن تغرب العقيد القذافي عن امته ومحاولة التعايش مع امة اخرى تمتلك من الخصوصيات التاريخية والاجتماعية التي لا تتطابق جميعها مع خصوصيات امة العرب نابعا عن خيار مصيري لزعيم تسلم السلطة في عام 69 تحت مبررات الرد على النكسة القومية في الخامس من يونيو (حزيران) عام 67، وحمل راية التشدد الثوري خلال ثلاثة عقود، بل جاءت هذه الأفرقة، كرد فعل خيبوي، وتبرؤا من النظام السياسي العربي، الذي ما زالت ليبيا جزءا منه، عندما لم يتمكن من تقديم حلول لمواجهة ازمات سياسية شاملة وكبيرة كالصراع العربي ـ الاسرائيلي، مثلما عجز عن توفير فعالية التضامن والتكامل امام ازمات فرعية تصيب هذا العضو او ذاك من العائلة العربية، خاصة عندما فتحت ازمة لوكربي عام 92 جرحا في الجسم الليبي، وكادت تعرض كيانه الى الخطر.

لا شك ان التطورات الكونية الهائلة في القطبية الواحدة وانعكاساتها في شاهدي حرب الخليج عام 91، ومؤتمر مدريد للسلام عام 92، قد وفرت المناخ امام نمو منهج سياسي عقلاني ظهر في اكثر من منطقة عربية مرجعية (القوة) لانعدام توازنها، ويعتمد الحوار للتعامل مع الازمات الوطنية والقومية، ومن بينها تعامل العقيد القذافي لحل ازمة لوكربي الليبية مع قوتين كبريتين هما الولايات المتحدة وبريطانيا، وكذلك بعض الامثلة في منطقة الخليج العربي لحل ازمات الحدود الاقليمية بين بعض البلدان الشقيقة. وهو ما يدعو الى التمسك بهذا المنهج، وتحويله الى احدى قواعد نظام سياسي عربي يقنع الآخرين من خارج الامة للتعامل وفقه في معالجة ازمات العرب معهم. كما ان تحديات المرحلة تتطلب جهودا صابرة مشتركة بين القيادات السياسية العربية لوضع قواعد لموقع العرب في حركة العالم المتسارعة نحو الاندماج والعولمة، وهم يمتلكون العناصر المادية لهذا البناء من ثروات ذات تأثير خطير على حياة العالم الغربي والاميركي، وتتوفر لديهم عناصر ميسرة لاتحاد على مستويات التجارة والبنوك والتعليم، ولعل البحث عن مناطق امينة عند امة اخرى لتحقيق حلم التوحد، وقد اصبح حاجة اكثر مما هو حلم، لم يقرره العقيد القذافي كخيار نهائي للتخلي عن عروبته وعروبة ليبيا، بقدر ما هو رد فعل لازمته مع النظام السياسي العربي.

فالجهد المبذول لتحقيق اتحاد افريقي، والذي اعلن ميثاقه في مؤتمر سرت 2 بليبيا في الثاني من مارس (اذار) الماضي. وهو خطوة جريئة لهذه القارة التي تشكل مركزا للموت الجماعي، ولمظاهر الفقر والمرض والتخلف والظلم وحروب القبائل، لم يتحقق الا بعد مسيرة اربعة عقود من فعالية منظمة الوحدة الافريقية، التي كانت تعبيرا عن الارادة السياسية لرموز قيادات التحرر الوطني من الاستعمار والتبعية، كعبد الناصر ونكروما ونيريري وسيكوتوري، وتحولت الى منظمة فعالة قادرة على الكشف عن الازمات بجرأة، وهي خطوة ضرورية لم تتمكن في عالمنا العربي الجامعة العربية من الوصول اليها لحد الآن، ونتيجة شعور القادة الافارقة الحاليين بان الطريق الوحيدة لمعالجة ازمتهم الجماعية، هو في تحول ارادتهم السياسية الى كتلة واحدة تستطيع وفق برنامج موحد وضع الحلول لازمات، في مقدمتها التخلص من حروب الابادة والانتقال الى لغة الحوار بدلا من العنف والسلاح. على الرغم من حدة الازمات الاثنية والعرقية والقومية المعرقلة للوحدات الوطنية داخل غالبية بلدانها. وكذلك وصولهم جماعيا الى قناعة بان عصر التكتلات العالمية الحالية لا يمكن مواكبته من قبل دول فقيرة منفردة سيكون مصيرها الاندثار خارج عصر التمدن والمعلومات تأكلها وحوش (الايدز) والحروب القبلية والجهل والتخلف.

لقد استطاعت الارادة السياسية الافريقية ان تنتقل الى خطوة جريئة في اعلان الاتحاد، حتى ان احاطتها لبعض المشكلات الادارية والاجتهادات الفرعية في تقديم الأشكال الاتحادية ذات الطابع الاقتصادي والعلاجي للازمات الكبرى، هذه الازمات التي لم تسمح للعاطفة السياسية بان تتغلب على عقل القادة الافارقة، لكونها لا تقدم لهم خبزا ولا دواء، وهم في هذا الجانب متميزون عن العرب الذين ما زالت العاطفة تحرك قراراتهم السياسية.

لا توجد في الشجرة الافريقية اغصان غنية في ثمارها واخرى معدومة، بل انها تشترك بحالة متجانسة من الفقر، ولهذا فان الحلول الجذرية لازماتها الاقتصادية لا تتحقق من داخلها، بل من خارجها حينما يتجه العالم الى بناء نظام لتقاسم الثروة الكونية بعدالة، وان تتوقف عمليات النهب التي تمارسها الشركات الاحتكارية الرأسمالية الاميركية، ولهذا نلاحظ عدم اكتراثها بالسوق الافريقية بسبب بعدها الجغرافي عن مركز ماكنة الرأسمالية، وصعوبة تحويله الى سوق استهلاكية، ولعل المكسب الرئيسي هو لشركات تجارة السلاح التي تحقق الربح الحالي، فيما تنتظر الولايات المتحدة موعد انقراض الشعوب الافريقية بالحروب المحلية والامراض الفتاكة. وان مؤشرات نظام العولمة الجديد لا يؤشر الى حلول لتلك الازمة العالمية، بل الى تكريس فقر الفقراء وغنى الاغنياء.

ولهذا فان الكتلة الافريقية الجديدة تواجه مصاعب كبيرة، وليس امامها سوى التوجه نحو التكتلات التي نشأت في ربع القرن الاخير في آسيا، ونحو البلدان العربية التي لم تتمكن لحد الآن من بناء كتلتها بسبب ضياع الارادة السياسية.. وقد تتمكن من تحقيق علاقات متوازنة مع الكتلة الاوروبية (اوروبا الموحدة)، لاقناعها بضرورة فتح خطوط تجارية لاستثمار منجم الخامات الهائلة في افريقيا، والتي كانت بعض الدول الاوروبية الاستعمارية تستغلها وفق اسلوبها الاستغلالي القديم.

يحاول العقيد القذافي ان يكسب سياسيا من هذا الانجاز التاريخي للقارة الافريقية، ليبعث برسالة الى اميركا مفادها: ان الولايات المتحدة حينما عزلته عن النظام السياسي العربي، وتتمكن من الضغط السياسي عليه في الازمة المتجددة في لوكربي بعد ان عبّر عن تخليه عن منهجه القديم، فهو اليوم يتصدر القارة الافريقية المتحدة، وقادر على اللعب بورقتها، والانفلات من هذا الضغط.. وقد يكون رد الاميركان ـ وهم المعروفون بعدم المرونة ويعيشون تحت تأثير نشوة الهيمنة ـ عدم الاكتراث بتلك الرسالة ومواصلة الضغط.

ولعل اهم ما تؤشره هذه الخطوة التجمعية الافريقية ليس بما ستحققه من انجازات عاجلة لازمات تاريخية عميقة، يصعب تصور حلول سحرية لها، ولكن بما يمكن ان تفتح الارادة السياسية من طرق ومسالك لأصعب الازمات، وهذا ما نحتاج اليه نحن العرب حينما يشعر مسؤولو القرار السياسي لدينا، بأن الازمات خارج الحدود السيادية لكل بلد لا تمنع من تسلل الازمات الى داخلها، وان المساهمة المسؤولة عن حل اية ازمة سياسية عربية سترفع الكثير من احتمالات تسلل اخطارها الى الداخل، كما ان كل الظروف ملائمة لانجاز خطوات في مجالات الاتحاد التجارية بمختلف فعالياته.

كان المثال الاوروبي شاهدا، واليوم المثال الافريقي شاهد آخر على ان الاتحاد اصبح حاجة وليس شعارا سياسيا.

[email protected]