تبريد الجبهة الفلسطينية لتسخين الجبهة العراقية!

TT

رحلت مادلين أولبرايت، وانتهت جولاتها المكوكية، ولن تعود إلى المنطقة إلا سائحة أو مدعوة من قبل أحد كرماء العرب لحضور مناسبة. وجاء كولن باول، ليبدأ من حيث بدأ زملاؤه الذين سبقوه، وليس من حيث انتهوا، وسيبقى الضرس الملتهب ملتهباً، إلا إذا حصلت معجزة وانتهت الأزمة العراقية خلال الأعوام الأربعة المقبلة، واستطاع الجمهوريون حل العقدة الفلسطينية، التي لم يستطع الديمقراطيون حلها، رغم محاولاتهم الجسورة والدؤوبة التي استمرت حتى آخر لحظة.

كل ما قاله باول وصرح به خلال جولته الشرق أوسطية الأولى، بعد أن أصبح وزيرا لخارجية الدولة التي كان رئيسا لهيئة أركان جيشها الذي لا تغرب عن مواقع انتشار قواعده وأساطيله الشمس، لم يكن مفاجئا وليس جديداً اللهم إلا إذا قال للزعماء والرؤساء والقادة الذين التقاهم ما لم يقله في العلن، وما لم يكشفوا النقاب عنه هم أنفسهم.

كانت جولة وزير الخارجية الأميركي استطلاعية، وكان هدفها الوقوف على وجهات نظر الدول التي زارها وإطلاع رؤساء وقادة هذه الدول على توجهات الرئيس جورج بوش وإدارته الجمهورية بالنسبة للقضيتين الرئيسيتين، القضية العراقية التي تحولت إلى التهاب مزمن جعل المنطقة كلها تعاني من الحمى وارتفاع الحرارة، والقضية الفلسطينية التي أكلت الاخضر واليابس وتحطمت على أسوارها رؤوس كبيرة.

لم يحدد باول موقفا واضحا للإدارة الأميركية الجديدة لا تجاه المسألة العراقية، ولا تجاه المسألة الفلسطينية، وكل ما نُقل عنه وقاله هو في تصريحاته التي أدلى بها في كل الدول التي زارها، كان مجرد خطوط عامة. فبالنسبة للمسألة الفلسطينية، دعا إلى وقف العنف، دون أن يحدد مصادر هذا العنف وأسبابه، واكتفى بمجرد إشارات باهتة إلى ضرورة فك الحصار الذي تفرضه إسرائيل على مناطق السلطة الوطنية. وبالنسبة إلى المسألة العراقية، ألقى المسؤولية على كاهل الرئيس العراقي صدام حسين، على اعتبار أنه لا يزال يشكل تهديدا لدول الجوار، وأنه مستمر في برامج أسلحة الدمار الشامل.

لكن هذا لا يعني، ويجب أن لا يفهم الأمر على هذا الأساس، انه ليس لدى الإدارة الأميركية الجديدة تصورات واضحة ستباشر بعد جولة باول «الاستطلاعية» وضع الترتيبات اللازمة لتطبيقها، ان بالنسبة للقضية الفلسطينية وعملية السلام، التي دخلت مرحلة الانهيار منذ انتهاء كامب ديفيد الثانية بلا إنجازات، وان بالنسبة للمسألة العراقية التي أصبحت بمثابة لغم مروِّع ينتظر جميع الذين يتحلقون حوله بأعصاب مشدودة ومتوترة، انفجاره في أي لحظة.

فماذا يمكن أن تفعل الإدارة الأميركية الجديدة، بعد جولة باول الاستطلاعية هذه، إن بالنسبة للمسألة العراقية المتفاقمة، وإن بالنسبة لعملية السلام، وبخاصة على المسار الفلسطيني، التي دخلت مرحلة الانهيار..؟.

بداية لا بد من التأكيد على أنه من الخطأ ربط المسألتين معاً، فالمسألة العراقية تختلف عن القضية الفلسطينية، وإذا كان العراقيون، ومعهم كل الحق، يصرون على هذا الربط للاستفادة من الانحياز الأميركي لإسرائيل في مجال تأليب الرأي العام العربي ضد الولايات المتحدة، فإنه ليس من مصلحة الفلسطينيين، ولا من مصلحة العرب عموما، اعتبار الموضوع الفلسطيني ملحقاً بالموضوع العراقي أو العكس.

إن المسألة هنا ليست مسألة عواطف، بل مسألة معادلات وأرقام وحسابات دقيقة، فهناك دول تقف إلى جانب الفلسطينيين وتساند قضيتهم، لكنها ليست على استعداد أن توسع إطار هذه المساندة كي تشمل المسألة العراقية، ثم هناك خلاف عربي، ولو بحدود متفاوتة، حول الموضوع العراقي وحول طرق معالجته يجب أن لا ينعكس وبأي شكل من الأشكال على القضية الفلسطينية.

عندما كانت القوات العراقية لا تزال في الكويت، سعت القيادة العراقية وفي وقت مبكر إلى الربط بين هذه القضية المستجدة وبين القضية الفلسطينية فتقدمت بحل، كان هدفه المناورة وكسب الرأي العام العربي، يضع الانسحاب العراقي من الأراضي الكويتية مقابل الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية.

وحقيقة، ان عرض هذه المعادلة، التي صفَّق لها البعض في حينها، لم يؤد إلا إلى المزيد من التشويش، إذ كيف يمكن مقايضة أرض عربية تحتلها قوات دولة عربية مجاورة بأرض عربية تحتلها قوات دولة مغتصبة بينها وبين العرب كلهم صراع أبدي وسرمدي هي دولة إسرائيل.

لم يكن ذلك العرض، الذي لم يتوقف أحد عنده وذهب أدراج الرياح، موفقا على الإطلاق، وكان مناورة سنضطر إلى القول، حتى ولو غضب الأشقاء العراقيون، انها كانت مناورة سطحية وبسيطة وليست بمستوى تعقيدات دولية بكل هذا الحجم من التداخل والخطورة.

ولذلك وبالاستفادة من ذلك الدرس البليغ فإنه غير جائز على الإطلاق الربط بين المسألة العراقية والقضية الفلسطينية، والقول بأن الغارات البريطانية والأميركية على أهداف عراقية قرب بغداد تأتي في إطار مواجهة الانتفاضة الفلسطينية، وبالإضافة إلى أنه غير صحيح فإنه يضر بالفلسطينيين وقضيتهم، ويحرم الشعب الفلسطيني وقضيته من تعاطف قطاعات عريضة من الرأي العام العالمي.

مفهوم جدا أن يرفع بعض الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة صور صدام حسين والأعلام العراقية في وجه وزير الخارجية الأميركي كولن باول، القادم إلى المنطقة بعصا غليظة بيد وجزرة ذابلة باليد الأخرى، من قبيل المناكفة والاحتجاج على انحياز الولايات المتحدة الفج إلى إسرائيل، أما أن يحاول البعض النظر إلى القضية الفلسطينية من ثقب المسألة العراقية فهذا لا يفيد الفلسطينيين ولا يفيد قضيتهم.

كان من الضروري أن يُبلغ المسؤولون العرب وزير الخارجية الأميركي، الذي كان قدم إلى المنطقة للاستطلاع والوقوف على وجهات نظر كل الأطراف المعنية مباشرة بوضع العراق وعملية السلام في الشرق الأوسط، ان عداء الرأي العام العربي لأميركا سببه إسرائيل، وان العرب لا يجدون مبرراً لكل هذا التشدد ضد العراق، بينما يقوم الإسرائيليون بكل ما يقومون به ولا تواجههم واشنطن إلا بالاستخذاء والتذيُّل والممالأة.

من الضروري والمفيد أن يسمع الأميركيون مثل هذا الكلام وأقسى منه، حتى يعيدوا النظر بمواقفهم تجاه عملية السلام في الشرق الأوسط، لكن ان يجري تناول القضية الفلسطينية، بكل تشعباتها وتداخلاتها وتعقيداتها على أساس أنها الوجه الآخر للمسألة العراقية المختلف بشأنها كثيرا، عربياً ودولياً، فهذا سيكون على حساب الفلسطينيين حتى وإن استفاد منه العراقيون في معركتهم الحالية.

إن هذه مسألة لا بد من التوقف عندها ونحن بصدد استعراض ماذا يمكن أن يفعل الأميركيون بعد عودة باول من المنطقة، وبعد ان وقف على وجهات نظر الدول التي زارها بالنسبة لعملية السلام في الشرق الأوسط، وبالنسبة للمسألة العراقية التي يبدو أنها دخلت طوراً جديداً يختلف عما كان قائماً خلال الثمانية أعوام الماضية.

والواضح أن جولة باول كانت ناجحة رغم كل التقديرات التي اعتبرتها فاشلة، فالإدارة الأميركية الجديدة كانت بحاجة إلى معرفة ما عرفه وزير خارجيتها واطّلع عليه، والأميركيون تيقنوا من أن الطريقة التي تعاملت بها الإدارة السابقة مع عملية السلام في الشرق الأوسط أوصلتهم إلى هذا المأزق، وجعلت حتى أكثر الدول العربية اعتدالاً تسمعهم كلاماً ما كانوا يعتقدون أنهم سيسمعونه من هذه الدول «الصديقة.. والحليفة».

ولذلك ورغم عدم الاكتراث الذي أبدته الإدارة الجديدة في البداية، فإن كل الدلائل تشير إلى أن القناعة التي ترتبت على زيارة باول إلى المنطقة هي أن المسألة الفلسطينية وليس المسألة العراقية مركز الاستقطاب في الشرق الأوسط، وأنها هي الأساس، وانه لا بد من البدء بها ليصبح بالإمكان الالتفات إلى باقي القضايا الأخرى.

وهكذا فإن الأميركيين سيحاولون، منذ الآن وحتى بدايات أبريل (نيسان) المقبل، تهدئة الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتأكيد فإنهم سيستغلون مشاركة حزب العمل الإسرائيلي في الحكومة الإسرائيلية الجديدة لممارسة ضغط جدي على ارييل شارون لحمله على الحد من غلواء المتطرفين في حزبه وفي الأحزاب اليمينية الأخرى، لإعطاء الولايات المتحدة فرصة لالتقاط الأنفاس، والبحث عن أسلوب جديد غير الأساليب السابقة لمعالجة أزمة غدت مستفحلة ومستعصية نتيجة الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة السابقة.

بعد ذلك سيسعى الأميركيون لإحياء اللجان المشتركة السابقة، وبخاصة اللجنة الأمنية الأميركية ـ الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وسيحاولون تطبيق ما يمكن تطبيقه من تفاهم شرم الشيخ، وعلى وجه الخصوص البند المتعلق بسحب القوات الإسرائيلية إلى مواقعها السابقة قبل اندلاع انتفاضة الأقصى، والإفراج عن الأموال الفلسطينية المحتجزة في البنوك الإسرائيلية.

ستجد الإدارة الأميركية، بعدما سمع باول ما سمعه ورأى ما رآه في المنطقة، انها لن تستطيع مدّ يدها إلى المسألة العراقية قبل أن تضع حدا للتدهور المتصاعد بالنسبة لعملية السلام على المسار الفلسطيني، وبعد أن تشعر الفلسطينيين والعرب بأنها عاقدة العزم على إلزام الإسرائيليين بالشرعية الدولية وبالاتفاقيات المبرمة مع منظمة التحرير الفلسطينية.

قد لا تستطيع الإدارة الأميركية تلبية كل الرغبات الفلسطينية والعربية، وهي لن تستطيع، ما دامت سياسة الولايات المتحدة قائمة على الانحياز لإسرائيل على حساب كل أطراف الصراع في الشرق الأوسط، لكن ما هو مؤكد أن الأميركيين الذين لمسوا لمْسَ اليد كم أن القضية هي جوهر الصراع في الشرق الأوسط، وكم أن مصالحهم ستبقى مهددة ما لم تحل هذه القضية على نحو يرضي الفلسطينيين والعرب ولو بالحدود الدنيا.

لن ينقلب الأميركيون على شارون، ولن يفكوا تحالفهم مع إسرائيل، لكنهم سيحاولون اتباع أساليب غير الأساليب السابقة، لتبدو الولايات المتحدة، وبخاصة لأصدقائها العرب، انها تسعى لأن تكون منصفة ولتستطيع مدّ يدها إلى المسألة العراقية بطريقة غير طريقة ادارة كلنتون التي طالما وصفها الجمهوريون بأنها غير حازمة ومائعة.

إذا استطاع الأميركيون تحقيق، ولو إنجازات صغيرة ومحدودة على صعيد القضية الفلسطينية من الآن وحتى بدايات ابريل (نيسان) المقبل، فإنهم سيتحولون حتماً نحو المسألة العراقية، وهم سيسعون بعد استعادة تحالفهم السابق الذي أنشأه جورج بوش الأب في بدايات العقد الأخير من القرن الماضي، إلى مواجهة أكثر سخونة مع العراق ومع نظام الرئيس العراقي صدام حسين.

سيستجيب الأميركيون لدعوات إعادة النظر بالحصار المفروض على العراق، فهذه مسألة تفرضها مصالح عدد كبير من الشركات الأميركية العملاقة، لكنهم مقابل ذلك سيحاولون في إطار ما سمي بالعقوبات الذكية فرض حصار على كبار المسؤولين العراقيين، واتهامهم بارتكاب جرائم حرب والإساءة لحقوق الإنسان.

وأكثر من هذا فإن الأميركيين قد يذهبون بالشوط أبعد وأبعد، فيحاولون اعتبار منطقة كردستان العراق، وربما لاحقاً بعض مناطق الجنوب، مناطق «محررة» وإعلان حكومة عراقية مؤقتة في هذه المناطق ورفع وتيرة المواجهة مع بغداد بأشكال وصور مختلفة.

ربما لن يوافق الأكراد، وبخاصة الزعيم الأوسع نفوذاً مسعود البارزاني، على ما سيسعى إليه الأميركيون في هذا المجال، لكن الواضح أن الإدارة الأميركية الجديدة عاقدة العزم على التصعيد مع بغداد، وهي بالتأكيد ستبادر إلى استغلال أي خطأ قد ترتكبه القيادة العراقية، وبخاصة إذا استطاعت تحقيق إنجازات على صعيد المسار الفلسطيني لجهة تبريد الجبهة الفلسطينية.