المهاجرون وضرورة التواصل مع الوطن

TT

نشرت صحيفة يومية لبنانية قبل بضعة أسابيع تحقيقا على صفحتين كاملتين حول آل زغبي وكفرتيه بعنوان «جيم وجون زغبي بين لبنان وأميركا» تحكي قصة مغادرة جدتي باربرا لقريتنا في لبنان مع أبنائها الخمسة وابنتيها وكيف تمكنت الأسرة من زراعة جذور جديدة في أميركا وقصة نجاحها وعودتها، كما افعل وشقيقي دائما، لزيارة لبنان.

تأثرت كثيرا بالصور ومنزل والدي في قرية كفرتيه الجبلية وشجرة الزيتون التي يبلغ عمرها أربعة قرون والكائنة خلف منزله. ثمة صور أخرى لأسرة والدي عام 1924 ومناسبة أخرى اجتمعت فيها أسرة زغبي في نيويورك في السبعينات إلى جانب صور حديثة لأبناء عمي الذين يعيشون في لبنان حتى الآن.

تطورت علاقة لصيقة مع أسرتي اللبنانية خلال السنوات السابقة، فهم يزوروننا في الولايات المتحدة. وفي عدة مناسبات سافرنا مع عائلاتنا لزيارتهم في لبنان. انها العلاقة استمرت 75 عاما منذ ان غادر والدي لبنان. من المؤكد ان هذه العلاقة كان من الممكن ان تجعل والدي فخورا.

اكتب هذه السطور قبل زيارة أخرى إلى أيرلندا حيث يقضي ابني ماثيو الفصل الدراسي الحالي في الكلية الجامعية في دبلن بصحبة زوجتي المتحدرة من أصول ايرلندية وابنتي لقضاء أسبوع معه.

كثيرا ما زارت أسرتي لبنان وايرلندا مع بعض الفرق. نزور في لبنان قرية والدي وأقربائي، وفي ايرلندا نبحث عن جذور عائلة زوجتي. اسم عائلتها هو «مكموهون» واسم عائلة والدتها هو «وولش». نعرف على وجه التقريب المنطقة التي تحدرا منها في أيرلندا كما ان الاسمين موجودان في عدة مواقع في دليل الهاتف المحلي بالإضافة إلى المقابر التي دفن بها عدد ممن يحملون الاسمين، غير اننا لا نعرف أي أسماء تنتمي لأسرتها من بين هذه الأسماء الكثيرة. الفروق بين الهجرات المبكرة للأيرلنديين واللبنانيين إلى الولايات المتحدة كبيرة وتعبر عن ظاهرتين الأولى يمكن تلخيصها في اختلاف زمن الهجرتين واختلاف الأوضاع التي قادت إلى هذه الهجرات إلى الولايات المتحدة. الهجرة الجماعية للأيرلنديين إلى أميركا جاءت خلال الفترة من منتصف وحتى أواخر القرن التاسع عشر. خلال سنوات «المجاعة الكبرى» (1845 ـ 1850) توفي ثلث الشعب الايرلندي وهاجر الثلث الآخر إلى أميركا وبقي الثلث في ايرلندا. يوضح المتحف الذي بناه الايرلنديون في كورك فظائع تلك السنوات ورحلات الألم والمعاناة إلى أميركا والظروف غير الإنسانية على ظهر السفن التي اكتظت بالمرضى والفقراء، تلك الرحلات التي قضى خلالها الكثيرون قبل الوصول إلى أميركا. الناجون من هذه الصدمة لم ينظروا مرة أخرى إلى أيرلندا وحتى الذين أرادوا لم يتمكنوا من ذلك. العودة كانت مكلفة وحتى مجرد التفكير بها يثير الكثير من الآلام والمآسي. المأساة التي حدثت خلال تلك السنوات تمثلت في ان الجذور تقطعت تماما من دون أمل في إعادتها. هذه المأساة، التي ظلت تؤلم كذلك من بقوا في ايرلندا، لا تزال موضوعا مؤثرا ومثيرا للمشاعر في الغناء والأدب الايرلندي حتى اليوم. هناك الكثير من الأغاني الأيرلندية التي تتذكر أولئك الذين غادروا ولم يعد أحد يسمع منهم أو عنهم.

والآن بدأ المتحدرون من موجات الهجرة تلك العودة إلى وطن الأجداد، إذ ينظر هؤلاء الى زيارتهم كونها زيارة للدولة بصورة عامة. انهم أيرلنديون لكنهم لا يعرفون جذورهم. الراغبون في تتبع تاريخ عائلاتهم يمكنهم الاستفادة الآن من خدمة جديدة للمساعدة في تحديد الأصول والعائلات والمدن التي تحدروا منها. حالة لبنان تختلف تماما، إذ ان الهجرات الأولى حدثت خلال الجزء الأول من القرن العشرين. لذا فان هناك جيلاً أو جيلين من المهاجرين اللبنانيين. علاوة على ذلك، فان الظروف التي غادر فيها المهاجرون اللبنانيون صعبة لكنها ليست مأساوية مثل «المجاعة الكبرى». لم يهاجر اللبنانيون الأوائل للنجاة بحياتهم بل كانوا روادا توجهوا صوب أميركا من اجل الفرص الاقتصادية، كما انهم كثيرا ما أرسلوا المال لمساعدة أسرهم واستطاعوا بذلك الاحتفاظ برابط مستمر مع الوطن.

لا يزال هناك بعض من المهاجرين الأوائل لذا فان الصلة بتاريخنا لا تزال حية، كما ان الاتصالات الحديثة وسهولة السفر تساعد كثيرا على الإبقاء على هذه الصلات وتمتينها إذا أردنا ذلك. أتذكر حتى الآن وبوضوح عندما عاد والدي لأول مرة إلى لبنان منتصف عقد الخمسينات من القرن الماضي، إذ كان أول فرد في العائلة يقوم بهذه الرحلة التي كانت حدثا مثيرا بالفعل. كانت عودة والدي مناسبة احتفلت بها القرية التي تحدث أفرادها جميعا عن نمو وازدياد حجم عائلة زغبي في الولايات المتحدة وإضافاتهم ونجاحاتهم. عندما عاد إلى الولايات المتحدة تكررت نفس المسألة، فقد احتفلنا لمدة أسابيع وجاء أفراد العائلة من جميع أنحاء الولايات المتحدة لسماع أخبار لبنان بصورة عامة وعلى وجه الخصوص أخبار كفرتيه. منذ ذلك الوقت وبتحسن وتطور الاتصالات زار الكثير من أفراد أسرتي لبنان، فقد عاد الكثير من أعمامي وبعض أبنائهم، كما زرت وزوجتي لبنان عام 1971 ثم تكررت زياراتي له منذ ذلك الوقت اما مع زوجتي وأطفالي أو مع شقيقي جون. اعتزم وشقيقي جون زيارة لبنان خلال فصل الصيف المقبل في رحلة سنصطحب كل أفراد الأسرة إلى جانب أبناء أعمامنا الذين لم يزر معظمهم لبنان من قبل. العلاقة التي نشأت بين أبناء المهاجرين ووطنهم تراجعت خلال سنوات الحرب الأهلية وحان الوقت الآن لإعادة بنائها.

إذا كان لا بد من استمرار التعاون، فمن الضروري اذن القيام بالمزيد من هذه الرحلات ليس بالنسبة للجالية اللبنانية المهاجرة في الولايات المتحدة بل يجب ان نشجع الجاليات العربية المهاجرة الأخرى على تمتين صلاتها بالوطن. لا تزال الفرصة أمامنا متوفرة لإعطاء هذا الجيل من المتحدرين من المهاجرين الأوائل التشجيع اللازم للإبقاء على الروابط والصلات مع ارض الوطن متينة ومستمرة. الجالية العربية الأميركية سيكون لها جيل رابع في الولايات المتحدة، فإذا لم نقم بهذا العمل الآن، سيصبح تاريخ عائلاتنا منسيا وصلتنا مقطوعة.

سيكون من المؤسف حقا إذا فقدنا ما لا يجب ان نفقده. الاعتزاز والفخر الذي شعرت به عائلتي في لبنان والولايات المتحدة عندما قرأوا ذلك التحقيق في الصحف اللبنانية يجب ان يتكرر لدى كل أسرة قبل فوات الأوان.

* رئيس المعهد العربي ـ الأميركي في واشنطن