صدمة الخروج من الكهف... !

TT

قصة «أصحاب الكهف» معروفة في المصادر الإسلامية والمسيحية; وجاء في ذكرهم آيات بينات تحكي أحسن القصص عن فتية آمنوا بربهم اعتزلوا في كهف قومهم نائمين ثلاثمائة عام وتسعة، وعندما عادوا لهم وجدوا أحوالهم وقد انقلبت من حال إلى حال. وما أتت به بعض المراجع هو أن الواقعة جرت في زمن واحد من الأباطرة الرومان ـ قد يكون «دقيوس» ـ الذي كان شديد القسوة مع رعاياه، ويعد مع «نيرون» أكثر أباطرة الرومان وحشية وظلما.

ولقصة أهل الكهف حكمة أساسية تقوم على خروج أفراد وجماعات من البشر لفترة زمنية طويلة نسبيا من التاريخ السائر بما فيه من قواعد وتقاليد، وتكنولوجيا وصناعة وإنتاج، ثم بعد ذلك يعودون فإذا بهم يواجهون بما لم يكونوا له مستعدين ومتأهبين. وفي الفكر الحديث فربما كان توفلر خلال السبعينيات هو من جاء إلى الجمع الإنساني متحدثا عن «صدمة المستقبل»، وهي فكرة أخذتها السينما الأمريكية لكي تتلاعب بها بين الأزمان المختلفة من خلال أفلام تتحدث عن «الرجوع إلى المستقبل» و «الذهاب» إلى الماضي. وبين هذا كله كان أمر البشر هو الانتقال بين أزمنة مختلفة بكل ما يكون في ذلك من صدمة واندهاش ، والبحث عن طريقة للتكيف مع المجهول وغير المألوف. وفي العادة فإن التعامل مع الزمن الجديد يكون بالذهاب في اتجاه إنكار ما جرى كلية ، والبحث عن طريق للعودة إلى ما كانت عليه الأمور; أو في البحث عن طريقة للتكيف والتآلف مع ما ليس معتادا; وفي الحالتين فإن هناك درجة من الألم ودرجة من السعادة والمتعة.

شيء من هذا يجري الآن بين العرب، فقد دخلت الدول العربية كهف الاستبداد العربي بعد الاستقلال ، منذ ميلاد الدولة العربية الحديثة خلال العشرينيات من القرن الماضي. وجاء الاستبداد الجديد لكي يضع طابقا إضافيا على استبداد آخر تكونت طبقاته طوال قرون الإمبراطورية العثمانية ، التي جاءت بدورها فوق سلسلة من الإمبراطوريات الاستبدادية الأخرى ، والتي كانت هي الأخرى ممتدة بتراث طويل يصل حتى بداية التاريخ. ولعل التاريخ لم يكن مظلما بطريقة مطلقة، فقد كانت هناك سنوات للحكم الرشيد، وسنوات من العصور «الليبرالية»، وأعوام أخرى من «التعددية» و«المشاركة»، ولكن الصفة العامة للتاريخ كانت حالة من الظلام الدامس التي ينقسم فيها الناس ـ حسب قول حكيم يمني ـ بين من يطلبون ذهب السلطان ومن يطلبون عفوه!.

ولكن عصر الاستقلال كان أكثرها صعوبة، فقد كان مما يخفف من استبداد السابقين أن مركز السلطة كان دوما بعيدا، وكانت القدرة على الانتقال من نطاق استبدادي إلى نطاق آخر تتم بسهولة ويسر، فلم تكن هناك جوازات سفر ولا تأشيرات دخول. وكان بوسع الشوام والمغاربة والمصريين التنقل بين أجزاء العالم العربي ويستقرون بالعائلات والتجارة. كل ذلك ضاع مع الدولة العربية الحديثة التي أضافت إلى استبدادها قدرة هائلة على حبس مواطنيها داخلها ، لكي يشهدوا بالسعادة على جماعات من الطغاة ، تسلط عليهم من ناحية آلة دعائية هائلة ، تقول بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، ومعها من ناحية أخرى قدرة لا تقل هولاً على قهر الإنسان بالسجن والخوف والتعذيب. وفي جلسة لنقاش الفيلم الشهير «عاطفة المسيح» الذي مزق قلوبا كثيرة نتيجة مشاهد التعذيب البشعة التي جرت لنبي الله قال قائل: ربما كان المسيح محظوظا لأنه تلقى هذا التعذيب قبل اختراع الكهرباء والدولة العربية الحديثة ، حيث كان سيلقى من أنواع العذاب ما لم تعرفه الإمبراطورية الرومانية!. وساعتها دارت في ذهن الجميع تصورات عن حال السيد المسيح أو غيره من الأنبياء والمصلحين وأصحاب الحكمة ، لو عاشوا تحت حكم الرئيس صدام حسين!

وحينما أتى القرن الواحد والعشرون لم يكن العرب قد خرجوا من كهف الاستبداد بعد، وربما أتى لهم بعض من ضياء من وقت لآخر، وربما عرفوا بعضا من المحاجاة والتعبير عن الرأي، وربما حتى جرت انتخابات دورية، وفي بعض بلاد العرب تم تأليف الأحزاب وسمح للنساء بالتصويت وتكوين الجمعيات الأهلية. ولكن الحال بقي في جوهره على ما هو عليه، وظل أصحاب القرار «يبايعون» على السمع والطاعة، وتجرى المسيرات للتأييد في الشوارع، ويذهب الناس للسجون في المساء والفجر، وفي واحدة من «الانتخابات» حصل الرئيس على 100 % من الأصوات بينما اكتفى الأكثر تواضعا على ما لا يقل عن 90 %.

وبدون الدخول في الأسباب لقلة المساحة أو لضعف البصر ، فإن العرب خرجوا فجأة على ساحة الديموقراطية تاركين الكهف أو الكهوف ، ليجدوا الدنيا كلها قد تغيرت وانقلبت رأسا على عقب ، وأحيانا انطبقت فيها السماء على الأرض. وربما كان الأمر الباعث على الدهشة في الموضوع أن الأمور «الطبيعية» لم تعد طبيعية كما كان الظن ذائعا، فلوقت طويل كان اللبنانيون أنفسهم قد ظنوا أنهم يحتاجون إلى الأبد للشقيق السوري بجيشه ومخابراته ومباحثه ، وما جد واستجد من أجهزة أمنية قديمة ومستحدثة سورية ولبنانية ، وبدونها فإن الحرب الأهلية قادمة لا محالة. ولوقت طويل ظن المصريون أن «مراجعة الدستور» من المستحيلات العظمى خاصة ما تعلق بها في انتخاب الرئيس; ومعهم سار على الدرب السعوديون الذين ظنوا أن الانتخابات حتى البلدية منها سوف تكون دوما من المستحيلات ; وعلى الطريق وقف الكويتيون يهزون الأكتاف يأسا من إمكانية تصويت وترشيح النساء في الانتخابات.

وفجأة أصبح كل ما كان «طبيعيا» موضوعا للنقاش والحوار وحتى التغيير والتبديل، وبعد أن غابت «السياسة» تماما عادت مرة أخرى لكي تعيد التفاوض والمساومات والأخذ والعطاء بين جماعات وقوى سياسية مختلفة ومتنوعة. والحقيقة أن كل ذلك لم يكن «الديموقراطية» بعد ، ولكنه كان نوعا من الضياء والحرارة التي أحس بها أهل الكهف للاستيقاظ من رقاد طويل. وكما هو معلوم فإن حدقة العين سوف تحتاج فترة للتكيف مع النور بدلا من الظلمات، كما أن أعضاء الجسد سوف تحتاج فترة للتكيف مع الحركة بدلا من الثبات، أما العقل فسوف يحتاج فترة للتدريب على الحوار والتوافق والمراجعة بدلا من الصمت. ولكن الخوف الأعظم سوف يكون ممن يجدون في الخروج من الكهف حالة صعبة للجسد والعين والعقل فيفضلون العودة للكهف من جديد! .