فرنسا مقابل (برشام)

TT

أعجب من هؤلاء الذين يرددون دائما أن الزمان الأول الماضي أفضل من زماننا الحاضر الذي نحن فيه، وان أجيال القرون السابقة أكثر حظا وسعادة وأخلاقاً منا.

فالسعادة هي السعادة، والتعاسة هي التعاسة، والأخلاق هي الأخلاق والسفالة هي السفالة، في كل الشعوب وكل الأزمان، وقد تختلف الوسائل غير أن الكمية هي هي.

فمثلما كان الرجل في الماضي يسعد فيما لو اقتنى جملا أو حصانا أو فيلا، فإنه يسعد اليوم فيما لو اقتنى سيارة أو زورقا أو طائرة، ويتعس صاحب الجمل لو انه حصل بدلا منه على تيس مثلا، وبنفس المقدار يتعس من تأمل في الحصول على طائرة، ولم يستطع الحصول إلا على سيارة.. كما أن رجل المدن المعاصر قد يتردى بالرذيلة ويمارس الفحش، تماما مثلما كان الرجل في الماضي لا يتورع من سبي النساء والاستمتاع بهن، ثم يذهب بعد ذلك ليكمل صلاته.

الإنسان (العادي جدا) في القرن العشرين يعيش عيشة يحسده عليها الملوك والسلاطين المتحكمون بالبلاد والعباد قبل عدة قرون، فـ (لمبّة) واحدة قوتها ستون شمعة تستطيع أن تضيء غرفته طوال الليل بدون أن تهتز أو يطفئها الهواء، تلك اللمبة التعيسة لو أنها عرضت على احد هؤلاء السلاطين والملوك لاشتراها بحفنة كبيرة من المجوهرات، ناهيك من حبّة (الأسبرين) أو أنبوبة (البنسلين)، أو (نظارة) العيون، أو حتى (صندل) البلاستيك، أما عن ونيت (الهايلوكس) فحكايته حكاية، إذ أنه لو عرض على (هولاكو) لامتطاه في المعارك بدلا من حصانه.

في الزمان البعيد عندما كان يريد الإمبراطور قيصر أن يسعد ويفرح (ويفرفش) كان يجمع القيان والمغنيات والراقصات والعازفين ليمتعوا ناظريه عدة ساعات، يكون وقتها قد عمل عملا عظيما وجبارا يحسده عليه شعبه الغلبان القابع خارج أسوار القصر بالظلام ولا يسمع غير صدى الأصوات يأتيه عبر الأثير.. واليوم يستطيع أي كلب أجرب يحمل بيده (الريموت كنترول) أن يقلب مئات المحطات التلفزيونية على مدار (24 ساعة)، فيشاهد كل قيان ومغنيات وراقصات شعوب العالم أمام ناظريه وتحت طلبه.

إنني على يقين أن لويس الرابع عشر كان على أتم الاستعداد أن يتنازل عن نصف فرنسا في سبيل الحصول على تطعيم الجدري مثلا، أو علاج للكوليرا، أو الطاعون، ومن الصعب طبعاً أن اعرض عليه زراعة كلية أو قلب أو رئة أو كبد أو برشام (فياغرا)، لأنني ساعتها أخشى أن يتنازل عن فرنسا بكاملها.

فيا أيها (المتنطعون)، يا أيها المتدثرون بأسمال الماضي، يا عشاق (الوراء) دائما، أتمنى من أعمق أعماق فؤادي لو أن موجة أكبر من موجة (تسونامي) بألف مرة قذفت بكم في هذه اللحظة ولا يردكم غير القرن العاشر الميلادي لتعيشوا في الحضارة التي تتغنون وتحلمون بها على أصولها.

ورحمك الله يا ماركوني، وباستور، وأديسون، ولا أزكي نفسي إن شاء الله أبداً.