من جورج واشنطن إلى جورج بوش

TT

من بين جميع القصص المتعلقة بالانتهاكات التي وقعت ضد أسرى الحرب على يد الجنود الأميركيين وموظفي «سي آي إيه»، ليس هناك أكثر إزعاجا وأهمية مما ذكره الزميلان دوغلاس جيهل وإريك شميت في تقريرهما المنشور يوم 16 مارس بصحيفة «نيويورك تايمز» عن مقتل 26 معتقلا كانوا تحت الحراسة الأميركية في العراق وأفغانستان منذ عام 2002، وهذا ما دفع المحققين العسكريين للاستنتاج أو للظن بأن هذا الإجراء يدخل ضمن جرائم القتل.

عليكم أن تفكروا مليا بهذا الأمر: نحن قتلنا 26 من بين أسرى الحرب. في 18 قضية تم تحويل الأشخاص المسؤولين عن القتل إلى المحاكمة أو لاتخاذ إجراء ما ضدهم من قبل الوكالات التي يعملون فيها، بينما هناك 8 قضايا ما زالت موضع تحقيق. هذا ببساطة أمر مروع. هناك حالة واحدة ، حسبما جاء في تقرير جيهل وشميت «تظهر كيف أن الانتهاكات العنيفة المرتكبة ضد المعتقلين تم توسيعها إلى ما وراء جدران السجن وتتناقض مع الانطباعات الأولية التي ترى أن التجاوزات وقعت فقط على يد عدد محدود من أفراد الشرطة العسكرية في ساعات الليل داخل السجن».

نعم ، أنا أعرف أن الحرب جحيم وبشعة. أنا أفهم أيضا أننا في أماكن مثل العراق وأفغانستان نتواجه مع عدو قاس لو توفرت بيده القدرة لألحق ببلدنا ضررا كبيرا. أنتم لا تتعاملون مع أناس كهؤلاء بقفازات أطفال. لكن قتل أسرى الحرب ، وافتراضا تحت التعذيب، هو تجاوز لا يقبل أي تبرير. وحقيقة كون الكونغرس وقف موقف اللامبالي وبدون أن يتم طرد أي مسؤول أو ضابط كبير هي نكتة محض. هذه الإدارة تعمل من أجل امتلاك كل شيء عدا المسؤولية.

عين الرئيس بوش مستشارته السابقة للإعلام كارين هيوز لترؤس حملة أخرى لتحسين صورة الولايات المتحدة في العالم العربي. أنا عندي اقتراح له: فقط حاول أن تعرف من مِن أعضاء حكومتك ومن هم الضباط ووكلاء سي آي إيه الذين كانوا مسؤولين عن أولئك الذين شاركوا في جرائم القتل الست وعشرين ثم قم بطردهم. هذا سيحسن صورة الولايات المتحدة في العالم العربي والاسلامي أكثر بكثير من أي حملة إعلانية. لأن أيا منها لن يكون لها أي تأثير طالما أن التجاوزات التي لحقت ضد أسرى الحرب قوبلت بهذه الدرجة من اللامبالاة.

تحرك أعضاء الكونغرس الجمهوريون بسرعة للوقوف مع قدسية حياة تيري شيافو (التي تعاني من تعطل في دماغها وطلب زوجها قطع التغذية عن جسدها كي تموت) لكنهم كانوا بكما حينما تعلق الأمر بقدسية حياة سجناء موجودين في عهدتنا. هذا الطابع من النفاق لن يكسبنا أي معركة في ميدان العلاقات العامة.

عن طريق الصدفة، وأثناء قيامي بتتبع قصة الانتهاكات التي ارتكبت ضد المعتقلين، قرأت كتاب «عبور واشنطن» الرائع والذي ألفه المؤرخ ديفيد هاكت فيشر حول قيام جورج واشنطن ووحداته بإنقاذ الثورة الأميركية بعد أن تمكنت القوات البريطانية بمساعدة المرتزقة الألمان (المعروفين باسم الهِسْيَن) من تصفية الثوار الأميركيين في المعارك الأولى حول ولاية نيوجرسي.

الشيء المؤثر في أحد فصول هذا الكتاب والذي يحمل عنوان «الطريقة الأميركية في الحرب» هو اختلاف واشنطن في التعامل مع أسرى الحرب ، بعكس الطريقة التي كان البريطانيون والألمان يتبعونها مع الأسرى ، «فحسب قوانين الحرب الأوروبية فان الرحمة بالعدو الجريح امتياز بأن يسمح له بالاستسلام وأن يصبح سجينا. فحسب التقاليد كان الجنود الأوروبيون يؤمنون بأن لديهم الحق لتبني الرحمة أو منعها... وفي قوانين الحرب تلك لا يمتلك أي مقبوض عليه حقا مفروغا منه بأن من اللازم أخذه سجينا أو حتى إبقاءه حيا».

كانت تصرفات الأميركيين مختلفة تماما. إذ «باستثناء بعض الحالات، كان الزعماء الأميركيون يؤمنون بأن الرحمة بالجنود الأعداء الجرحى يجب توسيعها كي تشمل كل المقاتلين باعتبارها حقا... كان الأميركيون يشعرون بالغضب الشديد حينما تمنع الرحمة عن جنودهم». وفي حادثة بشعة وقعت أثناء معركة «مزرعة درَيك» قتلت الوحدات البريطانية سبعة من جنود واشنطن الذين كانوا استسلموا حيث تم سحق أدمغتهم بالبنادق.

«قام الأميركيون بجمع الجثث المشوهة وكانوا مصعوقين»، حسبما كتب فيشر. أما القائد العسكري البريطاني فقد أنكر ببساطة المسؤولية. «كلمات القائد البريطاني مع ما قام به رجاله عززت إرادة الأميركيين كي يخوضوا حربا تستند إلى روح مختلفة... أمر واشنطن بالتعامل مع المقبوض عليهم من الهِسْيَن ككائنات بشرية مع نفس الحقوق البشرية التي كان الأميركيون يناضلون من أجلها لأنفسهم. وهذا ما أثار دهشة رجال الهسين أن يعاملوا باحترام وعطف. في البدء لم يتمكنوا من فهم هذا التصرف». وهذه السياسة وسعت كي تشمل الأسرى البريطانيين.

وفي آخر سطور لكتابه قال فيشر إن الرئيس بوش سيفعل شيئا رائعا إن هو تأمل هذا: جورج واشنطن والجنود المدنيون الأميركيون الذين قاتلوا معه في حملة نيوجرسي لم يقلبوا فقط موازين حرب مريرة ، بل إنهم حققوا ذلك عن طريق اختيار «سياسة إنسانية تتبنى مبدأ تماثل الكيفية التي خاضوا الحرب وفقها مع قيم الثورة نفسها. إنهم كانوا مثلا أعلى وعلينا أن نتعلم منهم».

*خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»