تقرير اغتيال الحريري: سياسة الانتظار والترقّب

TT

لم تضف عملية التحقيق التي قام بها فريق تابع للأمم المتحدة أي جديد لعملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري. فالتقرير الذي قدّمه أمس الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان الى أعضاء مجلس الأمن، الذين أسندوا اليه مهمة «متابعة الوضع في لبنان عن كثب ورفع تقرير، على وجه السرعة، حول الظروف والأسباب المحيطة بهذا العمل الإرهابي، وما يترتّب عليه من عواقب»، لم يكن وافياً، إذ بالكاد طرح العناصر التقنية التي تدعم الفرضيتين المتعارضتين بالنسبة لأداة الجريمة، مكتفياً بإعطاء ثقل كافٍ لكل منهما.

الفرضية الأولى، التي تشير الى استخدام شاحنة محمّلة بالمتفجرات، تدعم مقولة الحكومة اللبنانية بأنها «مؤامرة إرهابية اسلامية»، بينما السيناريو الثاني، الأكثر تعقيداً، يشير الى احتمال استخدام متفجرات زُرعت تحت الأرض، الأمر الذي يعزز ادعاءات المعارضة اللبنانية التي توجّه أصابع الاتهام الى الاستخبارات السورية بالتواطؤ مع السلطات اللبنانية.

هذه النتيجة كانت متوقعة. فباختيار بيتر فيتزجيرالد مفوضاً للشرطة لترؤس الفريق، وهو نائب مفوض الشرطة الآيرلندية، أوحى أنان بأن التحقيق هو جنائي في طبيعته، في حين أن مجلس الأمن طلب منه تقريراً حول «أسباب» الاغتيال و«عواقبه»، وليس حول «ظروف» الاغتيال فقط. فهل بالإمكان فعلاً توقّع أجوبة شافية حول جريمة بهذا الحجم عندما يتم إرسال ثلاثة ضباط شرطة مخضرمين، يرافقهم محام تابع للأمم المتحدة وموظفة في قسم السياسة؟ ألم تكن، في الواقع، مهمة فريق الأمم المتحدة تسليط الضوء على اغتيال أحد عمالقة السياسة اللبنانية وسبعة عشر شخصاً آخرين لقوا حتفهم معه؟ حتى هذه اللحظة، يبقى تقرير فيتزجيرالد بالنسبة لاغتيال الحريري بمثابة تقرير لجنة وارن بالنسبة لاغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي، وكلاهما يلفّه الغموض. وثمة قاسم مشترك بين التقريرين، وهو تغليب العامل السياسي على مسألة البحث عن الحقيقة والعدالة.

في هذا السياق، فإن تقرير فيتزجيرالد ـ أعدّه مع فريقه لدى عودته الى نيويورك ـ يثير مجموعة من الأسئلة، منها: أولاً، لماذا اختار الأمين العام تشكيل «فريق تحقيق» قد تكون لديه الإمكانات اللازمة للنظر في «الظروف» المحيطة بالاغتيال، ولكنه يفتقر الى الهيكلية المطلوبة للبحث في «أسباب» الاغتيال و«عواقبه»؟ ثانياً، لماذا وُضع تحت تصرف فيتزجيرالد طاقم من خبراء المتفجرات السويسريين، في حين رُفض طلب مماثل تقدمت به السلطات اللبنانية في وقت سابق؟ ثالثاً، لماذا استمر العمل على التقرير «حتى اللحظة الأخيرة قبل تسليمه الى أعضاء مجلس الأمن»، حسب مصادر دبلوماسية في الأمم المتحدة، علماً بأن فريق التحقيق أنهى مهمته في بيروت في الرابع عشر من الشهر الجاري؟

حقاً، إن أموراً كثيرة حدثت منذ أن تم ارسال فريق فيتزجيرالد الى بيروت قبل أربعة أسابيع، اذ انسحبت القوات السورية بصفة جزئية من لبنان، وتمت اعادة انتشارها الى منطقة البقاع. وفي الوقت الذي كان يتم فيه وضع اللمسات النهائية على التقرير في مقر الأمم المتحدة، كان الرئيس السوري بشار الأسد، يقدّم ضمانات الى الأمين العام، خلال لقائهما في الجزائر، بتسليم جدول زمني نهائي للانسحاب السوري الكامل من لبنان في بداية ابريل (نيسان) المقبل. ومن ضمن هذه الضمانات، حسب ما أكده أنان، موضوع «القوات العسكرية السورية وعناصر الاستخبارات»، حتى وإن كان القرار 1559 لا يشير من قريب أو من بعيد الى أجهزة المخابرات.

من الواضح أن دمشق، بسبب الموقع الضعيف الذي وضعت نفسها فيه، ليس أمامها خيار آخر سوى القبول بالتعريف الشامل الذي تدعمه واشنطن وباريس بأن القرار 1559 يدعو الى انسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان، بما في ذلك المخابرات الأجنبية. قد يكون هذا المطلب منطقياً، ولكنه جديد، وسيتطلب من الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثه الخاص المعني بتطبيق القرار 1559 توخي الحذر قبل الإقرار بانسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان، اذا ما سارت الأمور كما هو مخطط لها، لا سيما أن لبنان لا يزال يستقطب عناصر استخباراتية تابعة للدول المجاورة وغير المجاورة، والتي ينبغي عليها أن تغادر أيضاً لبنان وفقاً للقرار 1559.

هذا التقرير غير الوافي يناسب الكثيرين، في هذه المرحلة، اذ أنه يشجع تعاون الرئيس السوري بدلاً من حشره في الزاوية، ولكنه، في الوقت نفسه، يبقي سيف دمقليس مسلطاً على النظام السوري، اذ أنه يفتح المجال أمام مجلس الأمن ليصدر قراراً جديداً ينص على إرسال لجنة دولية للتحقيق في اغتيال الحريري.

من جهة أخرى، يدرك مجلس الأمن أن السماح لسوريا بالإفلات من قبضته من شأنه أن يعزز موقف الرئيس السوري ويعطيه دفعة جديدة من التحدي، خصوصاً أنه يدرك وجود انقسامات داخل المجلس في ما يتعلق بهذه القضية وغيرها من القضايا، بما في ذلك مسألة دارفور.

لعلّ هذه الأسباب تفسّر اتخاذ أنان موقف «الانتظار والترقّب» في تقريره مع احتمال قائم لإبقاء امكانية إجراء تحقيق دولي واسع. ويدعم فيتزجيرالد هذا التوجّه باستنتاجه أن الحكومة اللبنانية تفتقر الى الرغبة السياسية المطلوبة لإجراء تحقيق ذي مصداقية، وأن السلطة التشريعية تنقصها القدرة اللازمة للقيام بمثل هذا التحقيق.

ولم يكن من باب الصدفة أن يصرّح فيتزجيرالد، لدى مغادرته بيروت، بان «التقرير الذي أعدّه الخبراء السويسريون الذين رافقوا فريق الأمم المتحدة سيتم تحويله الى لجنة التحقيق الدولية، والتي لم يتم تشكيلها حتى الآن»، فقد يغفل السيد فيتزجيرالد أسباب الانفجار الذي أودى بحياة رفيق الحريري، ولكن، يبدو أنه والأمين العام للأمم المتحدة، يعلمان مسبقاً الخطوة التالية في مجلس الأمن. فقد أبلغ أنان قادة الدول العربية في الجزائر، قبل يومين، أنه «قد تكون هناك حاجة لعملية تحقيق أكثر شمولية». لماذا إذن، لم يتم فتح التحقيق المناسب منذ البداية؟ ولماذا أنهى فيتزجيرالد مهمته غير المستكملة، علماً بأن مجلس الأمن لم يحدد موعداً نهائياً لتسلم تقرير الأمين العام؟ من الواضح أن مهمة فريق الأمم المتحدة تحوّلت من مهمة «تحقيق» الى «تقصّي حقائق».

الآن، ومع توصيته بتشكيل لجنة تحقيق دولية، يمهّد الأمين العام الطريق أمام اتخاذ المجلس خطوات جديدة، بما في ذلك «تدابير إضافية»، كما جاء على لسانه قبل أسابيع قليلة، وهو تعبير يعني العقوبات أو استخدام القوة، حسب ميثاق الأمم المتحدة. ومع هذا الاحتمال، يصبح الانسحاب السوري من لبنان التحدي الأسهل الذي يواجهه الرئيس بشار الأسد.

* مديرة مكتب «الشرق الأوسط» في الأمم المتحدة