المفهوم الصحيح للمرأة.. في زحمة المفاهيم الخاطئة

TT

ما الداعي إلى تناول (موضوع المرأة) في لجة الأحداث التي يأخذ بعضها برقاب بعض، وتكاد تستأثر بالتفكير والاهتمام؟.. أول الدواعي: أن العالم احتفى منذ أيام بما تعارف عليه، وتواطأ على إحيائه، وهو (اليوم العالمي للمرأة).. ثاني الدواعي: أن موضوع المرأة يتصدر أجندة ما يسمى بـ (إصلاح العالم الإسلامي).. أما ثالث الدواعي فهو: (الضجة الكبرى المفتعلة) المتمثلة في امامة امرأة لصلاة جمعة مختلطة في نيويورك.. ولقد قوبل هذا التصرف الشاذ بموقفين زادا القضية بلبلة واضطرابا: موقف (الفتوى الجزئية) بمنع هذا التصرف، إذ بدا المنع المعزول ـ وهو صحيح من الناحية الفنية ـ وكأنه انتقاص من قيمة المرأة ومكانتها.. وثمة موقف آخر معتسف صور التصرف وكأنه (اجتهاد) سائغ صحيح الشروط والمقومات، وكأن الاجتهاد في الدين ليس سوى (هلوسة فكرية)، أو (سلوك نزق).

والدواعي الثلاثة تستوجب تقديم المفهوم الصحيح للمرأة: انتصارا لحقائق الإسلام، واستخلاصا لها من ايدي الجاهلين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني. ومن ايدي المتحاملين الغامزين: الأقربين منهم والأبعدين.

نحن مع قضية المرأة (إن صح أن قضيتها معزولة عزلا تاما عن قضية الرجل). نحن مع قضية المرأة، لأننا مع قضية (الانسان)، وهي، أي المرأة (إنسان): كامل التكوين والأهلية، وليست هي ـ كما قال أرسطو ـ (رجل ناقص التكوين أو رجل لم يكتمل).

ونحن مع المرأة لأنه نزل بها من الظلم والعسف والاضطهاد ما يجب أن يدان بلا هوادة، وأن يزال بلا تسويف. فالمرأة منا، ونحن منها. وليس بصاحب عقل ووعي وضمير من لا يرد هذا الظلم الذي نزل به هو ذاته في ذات اللحظة التي نزل فيها بالمرأة، فإن السوء في بعضي يسوؤني.

ونحن مع قضية المرأة لأن هذه القضية شوهت باسم الفهم الخاطئ للإسلام: تشويها أطفأ ضياءها، وحط من قيمتها ورتبتها.

ونحن مع قضية المرأة لأنها طالما كانت ضحية للتناول (الجهول)، والمعالجة غير المضبوطة ـ غفلة أو لؤما ـ: بمنهج علمي واضح منتظم مطرد الإعمال من البدء إلى المنتهى.

ونحن مع قضية المرأة لأن لها (حقوقا) لا ريب فيها: حقوقا وهبها الله لها، ومن ثم فهي حقوق غير قابلة للنقض: باسم الفهم المنحرف للإسلام، أو بضغط أعراف وعادات اجتماعية متخلفة، أو بسبب الافتتان بتقاليد جانحة خارجة عن البيئة، أو بسبب جهل المرأة نفسها بحقوقها هذه.

من أين يستمد المفهوم الصحيح للمرأة؟

من القرآن.

مثلا: شهد القرآن للمرأة: بالنباهة والرأي والفطنة، وليس في القرآن ما يغض من هذه النباهة، بل النقيض هو الصحيح.

وهذا هو الدليل:

1 ـ شهد القرآن بنباهة وفطنة ورأي وقوة فراسة بنت الرجل الصالح التي تزوجها موسى ـ عليه السلام ـ: «فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين. قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين».

فقد عرفت هذه المرأة، بفطنتها وفراستها ـ كما يقرر القرآن ـ: أن الشرطين الاساسيين لتولي الاعمال والمسؤوليات هما: القوة والأمانة.. ولقد قال عبد الله بن مسعود (أفرس الناس ثلاثة ـ اي أعظمهم فراسة ورأيا ـ وذكر منهم صاحبة موسى هذه).

2 ـ وشهد القرآن برجاحة عقل ورأي بلقيس ملكة سبأ.. يقول ابن كثير، قال قتادة رحمه الله: «ما كان أعقلها في إسلامها وشركها». وقال ابن عباس، قالت لقومها: إن قبل الهدية ـ أي سليمان ـ فهو ملك فقاتلوه، وان لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.. وقال ابن كثير نفسه ـ في تفسير قول الله: «فلما جاءت قيل أهكذا عرشك» ـ: «أي عرض عليها عرشها وقد غُيرِّ ونكّر وزيد فيه ونقص منه، فكان لها ثبات وعقل، ولها لُبّ ودهاء وحزم. فلم تجزم بأنه هو لبعد مسافته عنها، ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته. وان غيرّ وبدّل ونكرّ فقالت (كأنه هو). أي يشبهه ويقاربه. وهذا غاية في الذكاء والحزم».

3 ـ وسجل القرآن، فطنة أخت موسى، ولباقتها، وسداد رأيها: «وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون. وحرمنا عليه المراضع فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون».. وفي تفسير هذه الآية، قال مجاهد: «بصرت به عن جنب، أي من بعيد».. وقال قتادة: «جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده».. إن الموقف ملآن بما يدعو للعاطفة الغامرة، والتأثر البالغ، وعلى الرغم من ذلك، تحكمت أخت موسى في أعصابها، وضبطت عاطفتها، وحكمت عقلها من أجل مستقبل ومصلحة أخيها.. لقد تصرفت بحياد، وكأنها رأت الطفل الملقى في البحر مصادفة!! وهذا منتهى الذكاء والفطنة وسداد الرأي.

4 ـ وسجل القرآن، قوة شخصية المرأة، ورجحان عقلها، وحرصها على مستقبل أسرتها. بل احتفى الإسلام برأي المرأة حتى أخبرنا بأن الله يستمع إلى هذا الرأي، وحتى جعله قرآنا يتلى: «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير».

قالت هذه المرأة العربية الحصيفة ـ خولة بنت ثعلبة ـ: «فيَّ والله، وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة ـ كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه.. فدخل علي يوما فراجعته بشيء.. فغضب فقال: أنت علي كظهر أمي.. ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي. قلت: كلا، والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إليّ، وقد قلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه. فواثبني، فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني.. ثم خرجت إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابا. ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه. فجعل رسول الله يقول: يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه.. فوالله ما برحت حتى نزل فيَّ قرآن، فتغشى رسول الله ما كان يتغشاه ثم سري عنه فقال لي: يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا. ثم قرأ علي: «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها.. إلى قوله وللكافرين عذاب أليم».

ويستخلص من هذا نقطتان متعلقتان بـ (الرأي):

أ ـ النقطة الأولى هي: أن ما أبدته وعبرت عنه خولة بنت ثعلبة مجموعة آراء، وليس رأيا واحدا.

أولاً: رأيها السديد في الامتناع عن معاشرة زوجها بعد أن قال: أنت علي كظهر أمي.

ثانيا: رأيها السديد في الحرص على مستقبل وتماسك أسرتها.. يتجلى ذلك في قولها: إن أوْسا ظَاهَرَ مني، وإنا إن افترقنا هلكنا، وقد نثرت بطني منه، وقدمت صحبته.

ثالثا: رأيها السديد في رفع الأمر إلى النبي ورئيس الدولة.

ب ـ النقطة الثانية هي: أنه لولا رجاحة عقل خولة، وحكمة تصرفها، وقوة رأيها لقعدت في بيتها تجتر الهموم حتى تهلك هي وأسرتها، ولما كانت سببا في نزول تشريع عظيم يشملها ويشمل المسلمين والمسلمات جميعا إلى يوم القيامة. وهذا التشريع العظيم هو: حل مشكلة الظهار.

السنة تؤكد وتفصل

ولقد جاءت السنة لتؤكد وتفصل منهج القرآن في اعتبار رأي المرأة، والاحتفاء بظهوره والتشجيع على التعبير عنه، والأخذ به، والاستفادة منه.

ومن البراهين على ذلك: ان المرأة أبدت رأيها وشوراها عند أعظم حدث وقع في تاريخ المسلمين، بل في تاريخ الإنسانية كلها.. هذا الحدث هو نزول الوحي، على النبي صلى الله عليه وسلم.. فقد كانت خديجة بنت خويلد أول من سمع بهذا الحدث أو الخبر، وأول من أبدى رأيه ومشورته في هذا الموقف.. فقد دخل النبي على خديجة، وهو يرجف فقال: زملوني، زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع (الفزع) وأخبرها الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، ثم أشارت على النبي بأن يذهبا هو وهي إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لأخذ رأيه في الموضوع.. وقد كان.