تكريد كركوك

TT

لا أدري لماذا كنت أشعر بالخجل حين ألتقي كرديا عراقيا، وكان الخجل مصحوبا بذنب لم أقترفه، فلقد عانى الأكراد العراقيون عقودا من القهر والتهجير والاقتلاع والمذابح، وكان معظم إعلامنا ومثقفينا العرب يتجاهلون الجرائم الصدامية ضد الأكراد، أو في أحسن ينكرون المعرفة بها.

قبل أيام ألقت السلطات الهولندية القبض على مواطن هولندي يدعى فان أنرات، وقدم للمحاكمة كأول مواطن أوروبي يتهم بتهريب مواد تصنيع القنابل الكيماوية لصدام والتي استعملها ضد حلبجة الكردية عام 1988م، وتقول وسائل الإعلام بأن علي الكيماوي الهولندي ـ كما أسمته صحيفة «الغارديان» البريطانية، استمر بتهريب المكونات الكيماوية حتى بعد مجزرة حلبجة.

إلقاء القبض على المواطن الهولندي لن يرجع الموتى ولن يشفي جروح الضحايا، ولكنه عدالة مطلوبة لينال كل مجرم جزائه، الأخبار التي ترد من كركوك تتحدث عن مشاعر عدائية لدى بعض الأكراد ضد العرب والتركمان المقيمين فيها، وهي مشاعر لن تحقق العدالة ولن تعيد الموتى.

هجر نظام صدام من أهل كركوك الآلاف من الأكراد، وأحل محلهم عربا قسرا في محاولة فاشية لتغيير تركيبة المدينة الديمغرافية، وبعد سقوط نظام صدام تعالت أصوات كردية تريد إعادة الزمن إلى الوراء، وتطالب بتكريد المدينة، وليس في ذلك بأس ولا خطيئة، شريطة أن يتم بشكل سلمي وحضاري، فالمقيمون في كركوك اليوم لا يجب أن ينظر إليهم على أنهم عرب أو تركمان أو أكراد، بل يجب النظر إلى المدينة وقاطنيها على أنهم عراقيون وكفى، ويمكن لكركوك أن تشكل الأمل للتعايش السلمي بين أعراقها الثلاثة الرئيسية ـ العرب والأكراد والتركمان.

كان الحديث عن ضم كركوك لإقليم كردستان مزعجا للكثيرين، وخصوصا لما يعرف عما تتمتع به القيادات الكردية ـ وبالذات جلال الطالباني ومسعود البرازاني ـ من حكمة ونظرة وطنية عراقية شمولية، فالرجلان يرأسان أكبر تنظيمين مسلحين كرديين ـ الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وعرفا بتمسكهم بحماية كافة الأعراق التي تعيش في المناطق التي تسيطر عليها البشمركة الكردية، وعدم قبولهما المساس بأي من الأعراق العراقية المختلفة، ولكن الأخبار الواردة من مدينة كركوك بالذات تتحدث عن حملة «تطهير عرقي» منظمة وإن كانت غير معلنة، وترد الأخبار عن انتهاكات لحقوق الإنسان ولاغتصاب تعرضت له بعض النساء العربيات في المدينة بغية إرغامهن على تركها والرحيل منها، وتلك ممارسات لا يمكن أن تقبل بها القيادات الكردية أمثال البرزاني وطالباني وزيباري ووزير حقوق الإنسان العراقي المنصف ـ الدكتور بختيار.

إن أمام القيادات العراقية ـ على اختلافها ـ فرصة تاريخية لضرب مثل للتعايش العراقي متمثلا بالتعايش في مدينة كركوك، فالمدينة تتشكل فيها كل ألوان الطيف العراقي، ويكمن في باطنها ومحيطها ما يقدر بـ7% من احتياطي البترول في العالم، وبقيت شاهدة على الجرائم الصدامية في حروبة العرقية، وآن لها أن تودع تلك المرحلة وتقضي على آثارها بإعلانها مدينة لجميع العراقيين، على أن يأخذ هذا الإعلان في الاعتبار حقوق من هجروا قسرا، وأن يحفظ للمقيم فيها حق البقاء بعد ان هجر إليها أبواه قسرا أيضا.

إن مدينة كركوك واحدة من أصعب الاختبارات التي يواجهها العراق الجديد، والفشل في امتحان كركوك ـ لا سمح الله ـ قد يكون نذير شؤم يؤشر على عشعشة عقلية المحاصصة والتطهير ويدل على أنها ليست عقلية صدامية حصرا، بل إنها عدوى انتقلت لبعض القيادات العراقية الحالية.

والنجاح في كركوك وتأكيد عراقيتها للجميع سيعني حتما تباشير التعايش الجديدة التي يستحقها أطفال العراق.

أتمنى ألا يأتي اليوم الذي يخجل العراقي الكردي فيه من النظر في عيني أخيه العراقي العربي أو التركماني.