نعم أم لا ؟

TT

عذراً لكنني سأكرر اليوم شرح مثل شعبي مشرقي اسمه «حكاية ابريق الزيت». وتسلي الجدات أحفادهن الصغار تحريضاً على النوم بداعي الرتابة والملل، بأن تسألهم: «ان قلت إيه، وإن قلت لا، بحكيلك حكاية إبريق الزيت». ولا مناص! قبل استشهاد الرئيس رفيق الحريري بأيام قليلة لاحقت الدوائر المسؤولة في لبنان مكاتبه بحجة أنها توزع مساعدات من الزيت على المحتاجين. وقالت الجمعية الخيرية التي يمولها الحريري إن المساعدات جزء من زكاة متأخرة عن رمضان الماضي، وأن الهدف منها هدفان: الأول، شراء مواسم الزيت من المزارعين خوف كسادها، والثاني التبرع بها للمحتاجين.

أما الدوائر المسؤولة فكان لها رأي آخر وفلسفة أخرى وعبقرية لا نظير لها: إن تنكات الزيت هذه ليست استئخاراً عن الزكاة بل استباقٌ للانتخابات النيابية المقبلة. إذن، هلموا يا فرسان المدينة. حاربوا الانتخابات الملطخة بزيت الزيتون. احيلوا المساعدات على المحاكمة. سواء قال الفقراء إيه للزيت او لا للزيت. الدولة محصنة ضد الزكاة والزيوت خصوصاً أن لا فقر في لبنان ولا من يحتاجون.

التقرير الذي وضعته لجنة الاستقصاء الدولية حول اغتيال الرئيس الحريري هو أول جزء من حكاية ابريق الزيت الدولية التي ستضطر الدولة اللبنانية إلى سماعها، سواء قالت إيه او لا. الآن لجنة استقصاء والاسبوع المقبل لجنة استجواب. ولجنة الاستجواب سوف تضع اضبارة اتهامية وقراراً ظنياً، سواء قلنا ايه او لا. وبعد القرار الظني سوف يبرأ ناس ويتهم ناس: إما بالتقصير. أو باللفلفة. أو بالتضليل. أو بالمسؤولية الكاملة. ومن ثم يفتح فصل آخر. وتبدأ الدوامة من جديد: إن قلت ايه وان قلت لا!

هكذا دخلت ليبيا من قبل إلى دوامة مجلس الأمن، ولم تخرج الا بتسوية تاريخية وضعها ورعاها واشرف على تنفيذها بصبر لا يحتمل، الأمير عبد الله بن عبد العزيز. وبموجب هذه التسوية رفعت التهمة عن ليبيا الدولة وافتديت ببعض المواطنين. لكن إلى حين تدخل الأمير عبد الله وتكليف الامير بندر بن سلطان والمناداة على نلسون مانديللا ورمزيته الافريقية، ظلت الامم المتحدة تلاحق ليبيا بالحصار. وهكذا فعلت مع العراق إلى أن اقتنع صدام حسين اخيراً بأن اللعبة الدولية لا تنتهي دائماً بالمزاح. فقد تخطت أميركا مجلس الأمن وحلفاءها والحلف الاطلسي وغيّرت كل استراتيجيتها وقواعدها العسكرية في الشرق الاوسط لكي تعلن الحرب على العراق.

هذه القوى لا ترد بمجموعة افتتاحيات ولا بمجموعة يافطات في السوق. عندما يدخل بلد ما إطار الحدث الدولي، يجب أن يتصرف على هذا المستوى. جريمة لوكيربي لم تكن نزهة يعود منها الفاعل الى بيته. واغتيال رفيق الحريري لم يكن اغتيالاً فردياً ينتهي في كتب اغاتا كريستي وبطلها المسيو بوارو. وفي سابقة لا مثيل لها في التاريخ عينت الامم المتحدة نفسها محققاً في جريمة قتل فرد لا صفة رسمية حالية له. وسوف تلحق بهذا التحقيق حتى النهاية. وقد بدأت بتعيين شرطي آيرلندي يمشي ويتصرف ويتحدث مثل شرطي الشاشة روبرت ميتشوم، لكنها في المرة المقبلة سوف تعين رجلاً مثل القاضي الفرنسي دو بروغيير، الذي وصل ذات مرة إلى ليبيا على ظهر... غواصة، أثناء التحقيق بكارثة طائرة «يوتا» الفرنسية. وهي الشركة التي افلست بعد الحادث واغلقت تماماً كما افلست «بان أميركان» وأفلست.

كيف يرد لبنان عن نفسه المضاعفات الدولية المقبلة؟ كيف يخرج من عناكب القرارات والبنود؟ طبعاً ليس بتوجيه الاتهامات إلى التقارير ونقدها. هذه دفاعات لن تؤخذ في الاعتبار. الرد الحقيقي على التهم يكون بدحضها لا بنفيها. ويكون باجراء تحقيق جدي واضح وصادق ومباشر، لا يستقيل خلاله المحققون الواحد بعد الآخر بداعي الانشغال بالجرائم الاخرى.