أرقام ذات مغزى للعراق.. والمنطقة

TT

استطلاعات الرأي السياسة، اصبحت ظاهر صحية مألوفة في العراق الجديد، بينما لا تزال غير مألوفة في المنطقة، وآخرها دراسة استطلاعية اجرتها مؤسسة

Iraqi Prospect Organisation

وهي من المؤسسات التي تنشط لخدمة العراقيين ـ منذ توليهم امرهم بنفسهم بعد تحطيم اصنام الديكتاتورية البعثية ـ باطلاعهم على ردود فعل المتعلمين العراقيين، وتوقعاتهم من الديمقراطية ومشروع الدستور. وتضمنت الدراسة مقابلات مع 955 من الجنسين (48% ذكور و 62% اناث) متوسط العمر 22 عاما ونصف العام. أي انعدام خبرتهم بالنظام السياسي التعددي قبيل انقلاب 1958، واقتصارها على فترة ديكتاتورية البعث، وعقوبات الأمم المتحدة.

أُجريت المقابلات طوال شهر يناير، قبل الانتخابات البرلمانية التعددية.

مثل الاختيار حجم الجامعات والتناسب الأثنوجرافي للعراق، فجامعة البصرة اغلب طلابها من الشيعة، بينما الموصل اغلب طلابها من السنة، وبغداد خليط من الجميع.

فضل 60% الديمقراطية كنظام حكم امثل، ورأى 13% ان «احوالهم لن تتغير» في أي حال. المفاجأة ان 27% اختاروا الديكتاتورية القوية كنظام انسب «في ظروف معينة، بدلا من حكومة ديمقراطية». ارتفاع النسبة يشير الى مأساة العراقيين تحت حكم صدام حسين، وعقوبات الأمم المتحدة التي تشاركه المسؤولية، وتدهور الوضع الأمني بسبب الحماقة الأميركية في حل الجيش والأمن العراقيين; فالحاجة الاقتصادية، وتراجع الأمن، والخوف من الارهاب، ادت الى تفضيل الأمنين، الاجتماعي والاقتصادي، على الحرية والديمقراطية.

التدقيق في تفاصيل الدراسة يؤكد القول الانجليزي «الشيطان يكمن في التفاصيل». نسبة الطلاب الشيعة (جامعة البصرة) كانت الأعلى (68%) في تفضيل الديمقراطية، بينما اقتصرت على 54% في جامعة الموصل، وأغلبهم سنة.

حملت الديمقراطية مفهوما ايجابيا للغالبية العظمى (75%) من الجميع، بينما رأى 9% انها تحمل مفهوما سلبيا. المزعج ان 16 % لم يعوا ـ او يكترثوا ـ للمفهوم الديموقراطي، خاصة ان هؤلاء (الى جانب 9% يعتبرون الديمقراطية تطورا سلبيا) سيشغلون مناصب مؤثرة في ادارة البلاد.

الملاحظ هو التأثير المدمر لتحالف المصادفة بين البعث وعقوبات الأمم المتحدة على مفهوم الجيل الجديد، في ترتيبهم لأولوية العناصر التي تكوّن الديمقراطية. اختار 95% «المساواة» في التعليم والوظائف، والتقارب في الدخول ( 92%)، كعناصر أهم من الأسس السياسية والدستورية للحكم الديموقراطي، مثل التعددية الحزبية التي اختارها 70% فقط في حين يرى 63% حرية التعبير كعنصر ديموقراطي، بينما اشار النصف فقط الى حرية الفرد في الانضمام للحزب الذي يختاره، كتعريف الديمقراطية. تشير الأرقام الى تشوش الوعي بتعريف الديمقراطية كنظام حكم; فقد رتبوا عناصر الديمقراطية حسب النتائج التي تفيد الفرد في محيطه الذاتي، أكثر من التمتع بالحقوق السياسة والمدنية. فالخيار هنا ارتبط بين الديمقراطية وتخفيف المعاناة الاقتصادية.

الملاحظ ان الغالبية (94%) اختاروا تكرار الانتخابات على فترات زمنية محددة، كمكون اساسي للديمقراطية. لكن نسبة مقاربة (91%) اعتقدت ان العيش بلا خوف من الاعتقال هو ايضا مكوّن اساسي للديمقراطية. وهذا دليل على التأثير المزدوج لديكتاتورية البعث ووحشيتها على الناس، فمن ناحية جعلت التخلص من الخوف، هو تعريف للديمقراطية، ومن ناحية اخرى ساعدت وعي الناس على النضج بالتعرف على الغريزة الانسانية بحربة انتخاب من يمثلهم كاساس للديمقراطية ـ كحلم راود العراقيين في سنوات القهر والحرمان من التمثيل الحقيقي.

الملاحظ ان العناصر التي اعتبرها المشتركون «غير اساسية» ارتبطت بقبول التعددية كأمر طبيعي في المجتمع. فحوالي الثلث لم يقبل بفكرة ضرورة الحرية لانتقاد الحكومة، أو التعددية الحزبية اواختيار حكومة من حزب آخر كعنصر اساسي للديمقراطية. ولا يرى 37% من المشتركين حرية التعبير كمكوّن اساسي للديمقراطية.

ورغم تعقيدات الوضع في العراق، وربما الخطأ في تشخيص اسباب حالة الوضع الأمني، إلا ان رؤية التعددية الحزبية وتعدد الآراء كمصدر لعدم الاستقرار، بدلا من السبب الحقيقي، وهو العنف الذي يمارسه اصحاب الأيديولوجية الشمولية، هو نتيجة مباشرة للتأثير المدمر لأيديولوجية البعث. فخبرة السنوات الماضية ان الخلاف في الرأي والتعددية، ادت الى صدامات ـ بسبب رفض البعث قبول التعايش مع الآخرين ـ حسمت بالقتال لصالح الطرف الأكثر بطشا وعنفا، وهو البعث، وهو ايضا ما يلجأ اليه المتمردون الحاليون في المثلث السني، وهم إما فلول البعث، او الاسلامويون الأجانب، وهم ايديولوجيون شموليون في مثل عنف البعث او أكثر بطشا.

أقلية اعتقدت ان حكم الأغلبية ضرورة ديمقراطية ـ ربما بسبب التعددية العرقية والطائفية للعراقيين ـ واعتبر النصف فقط حرية الانضمام لحزب سياسي، مكوّنا اساسيا للديمقراطية، مما يشير الى فقدان الثقة بالأحزاب السياسة، التي ارتبطت في ذهن العراقيين بالحزب الواحد وهو البعث، الذي اقحم نفسه في الحياة الخاصة للناس وافسد عليهم معيشتهم اليومية.

وعندما سئل المشتركون ان يضعوا العراق على مقياس من واحد (قطب الديكتاتورية) الى 10 (قطب الديمقراطية) وضع 83% حكم البعث على رقم 3، مقابل 72% اختاروا رقم 7، عشية الانتخابات، كوضع يريدونه للعراق، بينما اعتقد 58% أن العراق سيصل هذا المستوى خلال خمس سنوات.

وقع الجميع في شرك سؤال مفخخ، عن اختيار واحد من سيناريوهات كلها غير ديمقراطية، بمعنى ان الملتزم بالديمقراطية سيرفضها كلها; 87 % رفضوا فكرة منع المرأة من المشاركة في الحكومة، و68% رفض حكومة الحزب الواحد، والنصف فقط عارض استبدال البرلمان برئيس للدولة. وانقسم المشتركون بالنصف بشأن تدخل الجيش في السياسة، وايضا حول اتخاذ «حكماء القبيلة» غير المنتخبين لقرارات حيوية، بينما وافق الثلثان على اتخاذ خبراء غير منتخبين لقرارات اقتصادية حيوية بدلا من البرلمان.

كما بلغت نسبة من وقعوا في سؤال مفخخ عن طبيعة دور الدولة في النظام الديموقراطي 55%.

الخلاصة هنا ـ وهي ليست للعراق فقط، وإنما للمنطقة التي تسعى قوى الثورة التحررية ان تهب رياح الديمقراطية عليها ـ ان الديكتاتوريات الشمولية الحالية ـ والتي تحاول «الاستعباط» والضحك على الادارة الأميركية بتأجيل مشروع الاصلاح او مشروع الرجوع لتعددية ما قبل الانقلابات العسكرية، بتعديلات دستورية مظهرية، او بتسليم اسلحة الدمار الشامل، او السعي للسلام مع اسرائيل، سوف توظف العناصر المألوفة، مثل القهر الأقتصادي، وتخويف الناس من «بعبع» الجماعات الأسلامية، او ابتكار «عدو خارجي» يهوّل الأعلام المأجور من خطورته، وايضا بتعميق مفاهيم متأصلة بالديكتاتورات، لتبليد احاسيس الناس واستئصال قدرتهم على استيعاب البدبيهية التاريخية بأفضلية الديمقراطية كنظام حكم متحضر.