فك الاشتباك الديني العلماني

TT

هنالك نظرتان متناقضتان للوجود. نظرة لاهوتية فحواها أن مصدر المعرفة غيبي وحسب وأن الأخلاق هي أوامر من عالم الغيب وحسب، وأن الحكم هو إلهي أي ثيوقراطي. في المقابل نظرة ناسوتية ترى أن معرفة الإنسان نابعة من ذاته وحسب وأن الدين والأخلاق هما من تأليف الإنسان وأن الحكم وضعي.

هاتان النظرتان تتجسدان في نظرة للإسلام ترى القرآن حاويا لكل المعارف تفسيرا خاطئا للآية «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»، منكرة أي مجال للمعرفة التجريبية أو العقلية.. هذه أسميها نظرة الدين المنكفئ. وفي العلمانية التي هي اشتقاق على غير قياس من العالم، أي أن كل شيء مستمد من عالم الشهادة الذي يدركه الإنسان بعقله وتجربته. وهذه هي العلمانية المتعدية.

الفهم اللاهوتي للوجود جسدته الكنيسة في تاريخ أوربا فاشتبكت في صراع مع الفكر الإنساني الذي واجهها بالعلمانية، وبعد صراع طويل توصلت المجتمعات الأوربية إلى معادلة تعايش.

ليس في الإسلام كنيسة ولكن انطلاقا من قدسية نصوص الوحي استخدم السلف منطقا صوريا بالقياس والإجماع فكونوا تفسيرا للنصوص واستنبطوا أحكاما صارت هي تجسيد الإسلام، وما على الخلف إلا اتباع ما «أجمع» عليه السلف. لذلك نشأ صراع شبيه بالصراع بين الكنيسة والعلمانية.

كثير من الاجتهادات الإسلامية المعاصرة قبلت ذلك التجسيد وتحاول الإطاحة به عن طريق أطروحات مثل أن النص القرآني منزل ولكن فهمنا له كله تأويل بشري (محمد شحرور)، أو أن كل مجتمع بحاجة لأسطورة والقرآن أسطورتنا (محمد أركون)، أو أن النص القرآني منذ لحظة نزوله تحول من كونه نصا إلهيا وصار فهما إنسانيا (نصر حامد أبو زيد)، أو أن الإسلام رسالتان مكية ومدنية، والمدنية تاريخية منسوخة (محمود محمد طه).. هذه الأطروحات وغيرها تطيح بالقرآن نفسه لكي تطيح معه بالتأويل السلفي! ولكن لا مشروعية للتسليم بالفهم السلفي للإسلام فهنالك منطق آخر غير المنطق الصوري للتعامل مع النصوص يستخدم العقل والمصلحة، والحكمة، والسياسة الشرعية، والمقاصد، والميزان، والقسطاس لتفسير النصوص ولتطوير الأحكام الفقهية.

إن القرآن يحث المسلم على نهج: «وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا».. ويتطلب «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). هذا النهج يوجب أن نؤمن بالوحي «وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ»، وأن نؤمن أن الطبيعة كتاب مشاهد «مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ» وحقيقة عالم الشهادة ينبغي بالعقل والتجربة اكتشافها ومعرفتها.

هذا النهج يثمر الفهم الآتي:

أولا: الطبيعة مسخرة للإنسان، كل الإنسان. وقوانين الطبيعة هي قواعد التسخير. ومن تعامل مع الطبيعة واكتشف قوانينها يسخرها مؤمنا كان أو كافرا.

ثانيا: أن للأخلاق أساسا موضوعيا أدناه المعاملة بالمثل وأوسطه إتيان المعروف وتجنب المنكر وأعلاه الإيثار. ومن تعالى بمكارم الأخلاق صار فاضلا مؤمنا كان أو كافرا.

ثالثا: العقل يعتمد عليه غير المؤمن ولا يستغني عنه المؤمن. قال الإمام الشاطبي في الموافقات: «الأدلة الشرعية لا تنافي العقول، لأن العقل هو مناط التكليف ولهذا يسقط التكليف عند ارتفاعه وتكليف العاقل بما ينافي العقل كتكليف غير العاقل، بل هو أكبر عبئا وأعظم وزرا وأشد بلاء».

رابعا: العدل أساس الحياة الاجتماعية، ومن بذل العدل أفلح في إدارة شئون المجتمع، مؤمنا كان أو كافرا، لذلك قال الإمام ابن تيمية في كتاب الحسبة: «إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. إن الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام». وقال: «أينما يكون العدل فثم شرع الله ودينه». وقال الإمام ابن القيم «كلما تحقق به العدل هو من الشرع وإن لم يرد به نص».

خامسا: الحرية هي بغية النفس الإنسانية وسر تطور القدرات الإنسانية. ومن توافرت له الحرية حقق تقدما مؤمنا كان أو كافرا والقرآن واضح في حرية الإنسان «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).

إذا صحت هذه الحقائق فما هو دور الإيمان؟

* العمق الروحي للحقيقة أقوى من العقلي والضمير الذي يدعمه الإيمان في نفس الإنسان أقوى رقيب.

* الإيمان يمنح النفس طمأنينة أن الإنصاف آت مهما تأخر فالحق يعلو.

* الحقيقة العقلية صفوية ولكن صورتها الإيمانية قاعدية وتعبوية.

* هنالك قضايا لا يحيط بها العقل مهما اجتهد «مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ولا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ). كيف بدأ الخلق؟ كيف دبت فيه الحياة؟ كيف دخلها الإنسان؟ ما هو المصير المحتوم للوجود؟ هذه القضايا لا يجليها إلا الوحي.

* التأييد الروحي للمسائل العقلية كمكارم الأخلاق، والعدل، والحرية، يمنحها عمقا ويحميها من التقلبات النفعية.

* التكامل بين النقلي والعقلي يدعم اليقين: «وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).

* الإيمان والعبادات المرتبطة به يهذب السلوك الإنساني: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).

* الالتزام بمكارم الأخلاق وبالعدل والحرية وكرامة الإنسان يترتب عليه جزاء أخروي.

هذا معناه أن الوحي يوجب تطوير قدرات الإنسان إلى أقصى مدى ممكن ويتكامل مع القدرات الإنسانية في المجالات المشتركة ويكشف المجهول فيما يتعلق بأمور هي فوق قدرات الإنسان.. الإيمانيات، والوجدانيات، والجماليات حقائق مؤثرة جدا في حياة الإنسان وهي مجالات لا تدرك كنهها المدارك البشرية القائمة على المعطيات الحسية.

إن الإيمان المنكفئ والعلمانية المتعدية لحدودها التي تحول العلم للعلموية وتحكّم العقل في خارج حدوده، نظرتان تشتبكان، ولا مناص من التوفيق أو التعايش بينهما، وهما تغذيان بعضهما الآخر، وتدخلان مجتمعاتنا في حوار طرشان عقيم.

ولكن الإيمان الإسلامي المحيط إيمان يعزز القدرات الإنسانية ولا يلغيها. والعلمانية المعتدلة تطور قدرات الإنسان إلى أقصى مداها وتسكت عما هو خارج نطاقها.. التعامل والتكامل بين هذا الإيمان المحيط والعلمانية المعتدلة ممكن. وفض الاشتباك الديني/ العلماني تحت ظلالهما ثمرة مرجوة.