سياسة حافة الهاوية ستؤدي إلى هاوية

TT

وعد شارون بأن يرمي بثقل اسرائيل بشكل يضمن أمن الاسرائيليين، ووعد من جهة أخرى اثناء حملته الانتخابية، بالابقاء على المستوطنات، والاحتفاظ بغور الأردن، وبعدم السماح بعودة القدس الشريف للسيادة الفلسطينية. واعتبر ان التنازل عن نابلس وأريحا وغيرهما من المدن الفلسطينية أمر مؤلم. والآن يهدد الجنرال يعلون وغيره (بموافقة شارون) باعادة احتلال المواقع التي سلمت للسلطة الفلسطينية لفترة مؤقتة أو لفترة غير محدودة. هذا يعني باختصار ان اسرائيل لم تستوعب دروس السنوات الثلاثين الماضية، وانها تصر على سفك الدماء كلما حاول العالم تطبيق قرارات الأمم المتحدة على جبهة من الجبهات العربية التي احتلت اسرائيل فيها ارضا عربية عام 1967، وهذا يعني ان اسرائيل تصر على التشبث بسياسة استعمارية قديمة، كلما تقدم العالم بأسره نحو مزيد من الحرية والدفاع عن حقوق الانسان، والاصرار على ان يتمتع البشر حيثما كانوا (في الصين أو كوسوفو أو الشرق الأوسط) بحرياتهم كبشر، وحقوقهم كبشر، واستقلالهم كبشر. وفي الوقت الذي تصر فيه اسرائيل، ويصر فيه شارون على التشبث بابقاء الأرض الفلسطينية تحت الاحتلال، والشعب الفلسطيني ضحية لهذا الاحتلال، وممارسات الجيش الاسرائيلي الهمجية، يرسل شارون رسالة للرئيس بشار الأسد وللقيادة السورية، وحسبما قال المبعوث الأوروبي الذي حمل الرسالة من شارون للقيادة السورية، فإن مضمونها كان الرغبة في اقامة السلام مع الجيران العرب وضمنهم بالطبع سورية.

إذا كان رئيس وزراء اسرائيل المنتخب لا يعلم ان العرب والسوريين يراقبون بدقة ما يدور الآن على الجبهة الفلسطينية، وانهم يقيمون عملية السلام برمتها، استنادا لما يجري في الضفة الغربية وقطاع غزة، فهذا جهل خطير ستكون له تبعاته الخطيرة، وإذا كان يعلم ذلك، ويصر على الاستمرار في سياسة استعمارية بطاشة وهمجية، ويرفض الانسحاب، وإعادة المستوطنين، ويصر على إبقاء القدس الشريف تحت الاحتلال، ويمعن في عنجهيته ويرسل رسالة للسوريين حول السلام، فإنه يستخف بعقول العرب والعالم بطريقة لا تليق إلا بالمستعمرين الذين هزموا، لاصرارهم على انهم قادرون على كسر ارادة الشعوب.

وعلى كل حال سواء علم شارون أم لم يعلم ان العرب يقيمون سياسة اسرائيل تجاه الفلسطينيين، وأنهم يستخدمونها مقياسا لمعرفة حقيقة التزام اسرائيل بعملية السلام أو عدم التزامها، فإن اتباع السياسة الحالية في استخدام البطش والحصار اللوجستي والاقتصادي ضد الفلسطينيين، هو بالفعل دفع للمنطقة نحو شفير الكوارث عبر سياسة حافة الهاوية، إذ لا يمكن لأي حاكم أو زعيم عربي ان يصدق ان الحكومة الاسرائيلية تريد بالفعل اقامة السلام مع جيرانها، لأن للسلام أساساً واحداً وهو الانسحاب من الأرض العربية التي احتلتها اسرائيل، سواء كانت هذه الأرض العربية تقع في الضفة الغربية أو قطاع غزة، أو الجولان أو مزارع شبعا.

وبما ان اسرائيل تماطل وترفض علنا الانسحاب عن الأرض العربية في الضفة الغربية وقطاع غزة (وهي الأراضي التي استمرت المفاوضات حولها عشر سنوات حتى الآن، ومع خمس حكومات اسرائيلية متتابعة، بعضها عمالي وبعضها ليكودي) فكيف يمكن للدول العربية ان تصدق ان لدى الاسرائيليين نية لاقامة سلام؟

وكيف يمكن للقيادة السورية ان تصدق ان شارون ينوي العمل من أجل السلام، كما جاء في الرسالة التي حملها المبعوث الأوروبي للشرق الأوسط منه للقيادة السورية؟

وبما أن الأمر هو على هذه الشاكلة، فإن القناعة التي سيكونها العرب والسوريون تحديدا، هي أن الحكومات الإسرائيلية المتتابعة، غير جادة في السير قدما في عملية السلام، وان معادلة الأرض مقابل السلام، التي اقترحها الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وتحولت إلى سياسة رسمية أميركية، قد حولتها حكومات إسرائيل المتعاقبة إلى معادلة الأمن مقابل السلام، أو الأمن مقابل الأمن وبعض الأرض.

وإذا كان لدى شارون مستشارون لهم حد أدنى من معرفة الاوضاع في المنطقة، فإن مثل هذه السياسة التي أعلنها شارون ومستشاروه، هي سياسة حرب وليست سياسة سلم، ويحق لكل الدول المعنية بالسلام ولكل الباحثين والاختصاصيين في شؤون الشرق الأوسط، ان يفكروا بالطريقة نفسها، وان يتوصلوا للقناعات نفسها.

شارون يريد أن يبقى مع الفلسطينيين وتحت سلطتهم التي يهيمن على كافة المقاليد فيها الاحتلال الإسرائيلي، المدن التي انسحبت عنها إسرائيل. ويريد أن يوقف الفلسطينيون دفاعهم عن النفس مقابل ذلك. وانه سيعود للمفاوضات، بعد أن يوقف الفلسطينيون دفاعهم عن أنفسهم في مواجهة الهجمات العسكرية الإسرائيلية الهمجية، حتى يعود ليفاوضهم على إبقاء هذه المدن تحت السيطرة الفلسطينية الشكلية.

وشارون يريد ان يقنع الفلسطينيين بأن عليهم ان يقبلوا بذلك، وألا يعترضوا عليه، وأن يبقي غور الأردن تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، وكذلك الحدود مع الأردن ومصر، وكذلك القدس الشريف، وكذلك مصادر المياه الفلسطينية، وكذلك التجارة الخارجية والداخلية، وكذلك حق الإقامة في فلسطين أو عدم الإقامة، وغيرها من الأمور التي تعني بمجملها أن شارون يريد من ياسر عرفات أن يكون دركيا يحمي إسرائيل ويخضع لها. وان شرط بقائه هو ان يخضع الشعب الفلسطيني للاحتلال الإسرائيلي. وهذا ما لن يحصل بالطبع. ولا شك أن شارون ومستشاريه يعلمون تمام العلم ان الفلسطينيين يرفضون ذلك. فماذا يقصد شارون إذا بقوله: سنعود للمفاوضات بعد أن يوقف الفلسطينيون ارهابهم للجنود والمستوطنين الإسرائيليين.

شارون يعني بالضبط انه لا يريد ان يعود للمفاوضات لأنه يرفض كل ما أبرمته حكومات اسرائيل السابقة من اتفاقيات مع الفلسطينيين. ويريد أن يدفع بالأمور بطريقة ساذجة تماما نحو التطهير العرقي للفلسطينيين من ارضهم وأملاكهم تحت مظلة السلام. انه يدفع السياسة الإسرائيلية نحو سياسة حافة الهاوية، أي انه يضع الفلسطينيين امام خيار واضح واحد: ان يستسلموا للاحتلال. وهو يستخدم وسيستخدم بشكل أوسع وأبشع، القوة العسكرية الإسرائيلية والجنود الإسرائيليين لتنفيذ ذلك. وحافة الهاوية مع الفلسطينيين، هي استخدام أقصى درجات العنف الاستعماري لإخضاع الفلسطينيين. فإن هم رضخوا نجح شارون، وان هم رفضوا حلت الكوارث وسالت الدماء سيولا.

وبما ان الفلسطينيين بقيادة ياسر عرفات، سيرفضون ذلك حتما، وسيدافعون عن انفسهم وسيقاومون الاحتلال، فإن هذا العنف الاستعماري الهمجي، الذي تستخدمه وستستخدمه الحكومة الإسرائيلية، سيؤدي إلى إقامة الفرصة لمتطرفين من الطرف الفلسطيني أو لأفراد دفعتهم ممارسات جنود الاحتلال الإسرائيلي للانتقام، للقيام بأعمال سيستغلها المسؤولون الإسرائيليون ورئيس وزرائهم شارون، في محاولة لتبرير أعمال التطهير العرقي ضد الفلسطينيين. ليس هذا فحسب، بل سيحاول شارون تغطية ممارساته بغطاء مثل هذه العمليات داخلياً وإقليمياً وخارجياً.

وبما أن حملته الدعائية لتلميع صورته في الولايات المتحدة (واستبدال صورة السفاح بصورة الرجل الذي يريد السلام والأمن)، تتم الآن تحت شعار لا يمكن أن نعود للتفاوض مع الفلسطينيين في ظل الإرهاب وعمليات القتل الفلسطينية، فإنه سيستغل عمليات بعض المتطرفين الفلسطينيين ليقول للغرب هل رأيتم ماذا أعني؟.

وسيجد في الغرب (صاحب القرار في المنطقة) آذانا صاغية. اما على الجبهة العربية والسورية خاصة، فيحاول شارون استغلال حالة الضعف العربي وعدم القدرة على المواجهة أو التصدي، أو صد الهجوم الإسرائيلي ليرسل رسائل سلام. ويقصد شارون، ان ينشر مضمون رسائل السلام هذه في العالم، فهذا جزء لا يتجزأ من تغطية نفسه ومخططه.

حملته الدعائية (التي ستكلف الملايين) لإبراز صورة جديدة لشارون، الذي يريد السلام، لكنه محق في الدفاع عن أمن الإسرائيليين. ورسالته لسورية لا تقول فقط إنه يريد السلام، (أي شارون)، بل ان نصها يتضمن الدعوة لبدء مفاوضات جدية بين سورية وإسرائيل لإقامة السلام دون شروط مسبقة. والمبعوث الأوروبي، كان مخولاً شفهياً ان يضيف للرسالة بأن شارون لن يعترض علناً على استمرار السوريين في القول بأن شرطنا المسبق هو أن يوافق الإسرائيليون على الانسحاب لخطوط الرابع من حزيران. وانه بإمكان السوريين ان يدخلوا المفاوضات على هذا الأساس، لكن هذا لا يعني موافقة اسرائيل.

ومعروف أن لشارون وجهة نظر تتعلق بالجولان: أهم نقاطها، رفض عودة السوريين لمصب مياه نهر الأردن في بحيرة طبريا، وعدم ازالة المستوطنات والمشاريع السياحية، وعدم تسليم أي جزء من جبل الشيخ، والاحتفاظ بمواقع عسكرية اسرائيلية في الجولان وجبل الشيخ والجولان الفلسطيني.

من هنا فإن سياسة شارون مع العرب (وسورية تحديدا)، هي الدفع نحو سياسة حافة الهاوية. فمن ناحية يعرض السلام حسبما يراه هو مناسباً لإسرائيل ومصالحها الاقتصادية بالأساس، ومن ناحية أخرى يتصرف تصرف عنجهية القوة، ويهدد من دون أن يعلن ذلك مباشرة لسورية، بأن إسرائيل تملك القوة اللازمة لتدمير القوات السورية في لبنان، وتدمير السد العالي، وضرب بغداد، وضرب طهران.

ولقد اتبع المرحوم الرئيس حافظ الأسد، سياسة عدم السماح بالقيام بأي عملية من الجولان منذ أن تسلم زمام الحكم، لمعرفته بأن إسرائيل تستطيع ان تضرب القوات السورية. وهذا ما لم يكن يريده حافظ الاسد، لأن بقاء الجولان لفترة زمنية طويلة (إلى أن يتحقق التوازن الاستراتيجي) لن يعيق سورية عن البناء والنمو والتقدم. لكن الأمر الآن اختلف، لأن شارون غير سعيد بسياسة سورية التي تمنع العمليات من الجولان وتشجعها وتدعمها في مواقع أخرى. ولذلك فإنه يتبع مع السوريين سياسة حافة الهاوية، أي إما أن تقبلوا بالسلام الذي تريده اسرائيل، او ان نجد ذريعة لضربكم. وما يجب أن يضاف هنا كعامل مهم في رسم سياسة حافة الهاوية الليكودية او الشارونية، هو أن الآلة العسكرية الإسرائيلية الضخمة والحديثة والمتفوقة تتآكل، ويأكلها الصدأ يوما بعد يوم، وفقدت منذ عام 1982 دورها الإقليمي.

بينما نخر المتدينون والشرقيون اليهود عظام المؤسسة العسكرية، وأصبح جيش النخبة جيشا يعتمد على جنود لحد ومرتزقة الفلاشا، وأصبح موفاز يان الإيراني رئيسا للأركان، واكثر من نصف هيئة الأركان من غير الاشكناز. ولذا، فإن شارون يريد استخدام هذه السياسة (حافة الهاوية) لإثبات (أو محاولة إثبات) ان الجيش الإسرائيلي ما زال جيش النخبة، (بينما هو ليس كذلك)، وذلك استنادا للتفوق النوعي الذي زود به اسرائيل الرئيس بيل كلنتون بشكل لم تحلم به. والحقيقة ان قرار كلنتون هذا جاء بناء على ضغط من مليونيرية اليهود ورشاواهم، لكن مراهنة شارون في سياسة حافة الهاوية هي المغامرة الأخيرة، ونحن لا نريد ولا نحب ان نرى ذلك بعد الكوارث التي ستحصل وسيول الدماء. نحن نريد السلام ونقدم لشارون والإسرائيليين فرصة جديدة للانسحاب، وتطبيق قرارات الشرعية الدولية، وإلغاء السياسة العنصرية الاستعمارية الاستيطانية.

لكن شارون سيكون ذلك الذي جلب الكارثة لإسرائيل ولغيرها، كما جاء في الاساطير.

من ناحيتنا، نبلغ شارون والإسرائيليين اننا لم نستخدم ما لدينا من قوى تحت سلطة القيادة الفلسطينية.

وهذا ليس تهديدا، فكما قال الرئيس عرفات أمس: «نحن لا نملك قوة نووية، وهل يريد شارون استخدام قوة اسرائيل النووية ضد الشعب الفلسطيني؟».

حتى هذا الاستخدام سيكون كارثة أكبر على الإسرائيليين، ألا تعلمون أيها الإسرائيليون؟.