الصحافة والطفيلية

TT

من الامور التي يجهلها سائر من كتب عن الصحافة العربية وتاريخها انها مدينة الى حد كبير لهذه الفصيلة الفاضلة من الناس وهم الطفيليون. لا اقصد هنا الصحافيين الطفيليين، ففي عالم الصحافة يعتبر التطفل والطفيلية من عناصرها المألوفة التي لا تستحق حتى الاشارة اليها. ما اقصده هم الطفيليون المحترفون الذين يترصدون للولائم والمآتم والحفلات بهمة وكفاءة. ما زلت اتذكرهم في مقاهي بغداد يشترون او يكترون الجريدة اليومية ويسرعون فورا الى تقليبها الى صفحة الوفيات والاعراس. اكتسبوا خبرة واسعة في معرفة المآتم والولائم. من من الناس يقدمون البقلاوة والقطايف في كل اكلة. ومن من العوائل اشتهرت بنساء يجدن طبخ الكبة والدولمة والباميا. من منهن شحيحات مقترات في اللحم والسمنة. من يطبخن بالزيت النباتي المستورد من بلغاريا ومن يطبخن بالدهن الحر الخالص. يجلس هؤلاء الطفيليون المحترفون، يتبادلون الآراء والخبرات ثم يقررون في اي مجلس فاتحة سيتعشون في ذلك اليوم.

الصحافة العربية مدينة في نشوئها وازدهارها لهؤلاء السادة. بل واستطيع ان اقول انهم هم الذين ارسوا قواعد التعليم في البلاد. فما الفائدة من القراءة والكتابة لو لم تدل الناس على الولائم واماكنها ومواعيدها؟ الطفيليون في السابق من امثال اشعب ونعيمان الانصاري كانوا اناسا غلبانين متخلفين. طفيلي اليوم رجل متطور يتابع ما يرد في الصحافة ووسائل الاعلام ويميز بين الولائم ومأكولاتها، بل وحتى انواع الاملاح والبهارات والابصال والاثوام المستعملة فيها. وله في دولابه سائر البدلات المناسبة لكل حدث. اذا كانت الوليمة عن جنازة تراه يخرج بدلته الداكنة ويشد ربطته السوداء ويلتف بعباءة محترمة وقورة ويحمل معه مسبحة بأكبر ما يمكن من الخرز. اما اذا كانت المناسبة فرحا، فيخرج من الدولاب ازهى البنطلونات وقمصان الروك اند رول وآخر صرعات الاحذية الكاوتشك. وفي مناسبات الطهور تراه يأخذ معه مجموعة من الماصولات والزمارات يزمر بها لاولاد صاحب الوليمة ويخفف عنهم البلاء.

قلما يدرك الناس ان الانظمة الثورية الشمولية وجهت اكبر ضربة للصحافة بمنع صفحة الوفيات. لم تعد هناك اي حاجة للمواطن لشراء اي جريدة. ففي بلد كالعراق لا شيء يهم الناس كالموت. المؤسف في الامر ان الطفيليين اهملوا تنظيم انفسهم في نقابات محترمة تدافع عن حقوقهم وتعطيهم تأمينا صحيا ضد نتائج التخمة والقرحة والبدانة والتسمم بالأكل المستورد.

اما وقد اخذت روح الانفتاح والدمقرطة تجتاح البلدان العربية فانني ممن يرون ان من اهم الاصلاحات الضرورية لدنيا الصحافة ورفع مستوى الصحافيين اعادة بعث حقول الوفيات واعمدة الافراح والاعراس ليكثر عدد القراء ويزداد التوزيع، على ان تخصص صفحات كاملة عن هذه الولائم باسم «صفحة الطفيلية» و«اين تأكل هذا المساء؟» مع كل ما يمكن من التفاصيل عن انواع الاكل الذي سيقدم وموجز من سيرة الطبابيخ القائمين بها وكيفية الوصول الى اماكنها. فلا فائدة من عشاء اذا كان عليك ان تأخذ تكسي للوصول اليه فيكلفك اكثر من الاكل في مطعم. المهم ان يتذكر رئيس التحرير وصاحب الجريدة ان الطفيلية مهنة تراثية والطفيليين يشكلون اهم شريحة اقتصادية في البلاد.