الخلافات في السودان إلى متى.. وإلى أين؟

TT

تنفرد السودان عن سائر الدول العربية بأن الموقف الداخلي فيها يفرض نفسه على الساحة العربية والساحة الدولية، وانه لا يجنح الى الهدوء والاستقرار منذ الانقلاب العسكري عام 1989 الذي يعتبر آخر انقلاب عربي، رغم المحاولات التي يقوم بها نظام الفريق عمر البشير، ورغم استجابة بعض قوى المعارضة التي كانت تنضوي تحت اطار التجمع الوطني الديمقراطي وعلى رأسها الصادق المهدي زعيم حزب الأمة لهذه المحاولات.

وأخبار السودان خلال السنوات الأخيرة تفرض نفسها على الصحف وأجهزة الاعلام، فالحرب الأهلية قد اتسعت لتشمل اربع جهات، ومواقف بعض القوى السياسية تتبدل تبعاً للظروف، ووحدة الأحزاب تتعرض للتشرذم، وفي مقدمتها الحزب الحاكم «جبهة الانقاذ» التي انقسمت الى حزبين، حزب المؤتمر الوطني برئاسة البشير، وحزب المؤتمر الشعبي برئاسة الدكتور حسن الترابي والانقسامات والخلافات الحزبية لا تكون مؤثرة اذا وقعت في احزاب المعارضة، ولكنها تكون ذات تأثير اكبر وصدى اوسع اذا وقعت في صفوف الحزب الحاكم كما حدث في السودان، وهو أمر يندر ان نجد له نظيراً في دولة من الدول التي تتكاتف الأحزاب الحاكمة فيه خشية الانهيار. ونظام الخرطوم الذي وصل الى السلطة عن طريق الانقلاب العسكري انبثق من جهة الانقاذ الاسلامية التي ارتبط الأعضاء فيها بآيديولوجية موحدة تقوم على أساس تطبيق الشريعة الاسلامية في ارجاء السودان ووقف الحرب الأهلية عن طريق القمع والسلاح. ولذا اعتبر المراقبون ان ظهور الخلافات بين البشير والترابي هو أمر نابع من شعور بأن الطريق قد اصبح مسدوداً امام الجبهة، وانه لا بد من تغيير اسلوب التعامل السياسي الذي لم يفلح خلال اواخر القرن العشرين وذلك بالانفتاح على القوى المعارضة التي خرجت من السودان مرغمة والتي توحدت في التجمع الوطني الديمقراطي الذي جمع القوى السياسية في الشمال والجنوب على أساس الوحدة الوطنية وبناء سودان ديمقراطي ينعم المواطنون فيه جميعاً بحقوق متساوية لا تفرض على المواطن شرعية دين غير دينه.

وكان ظهور الخلاف بين البشير والترابي منذ البداية موضع دهشة واستغراب الجميع لأنه من المعروف ان الترابي هو مؤسس ورئيس جبهة الانقاذ وانه المنظر لها وانه كان المسيطر الفعلي عليها وعلى الميليشيات التي شكلت في صفوفها وانه هو الذي دبر ورسم خطة الانقاذ التي نفذتها القوات المسلحة، والتي أرسل البشير بمقتضاها الى رئاسة الجمهورية، ووضع نفسه في السجن مع الزعماء الوطنيين ليتفادى رد فعل الشعب السوداني والدول المجاورة ضد الانقلاب اذا اكتشفت طبيعته قبل تثبيت اقدامه، وابعاد اعدائه عن مراكز السلطة او منابر الحرية.

وكان انفجار هذا الخلاف دليلاً على عدم تماسك وصلابة تنظيم الجبهة الذي يهتدي وينادي بتطبيق الشريعة الاسلامية بشكل غير ديمقراطي، ولا يوفر حقوق الانسان الطبيعية. وساعد الخلاف على تشكيل حزبين مختلفين واسراع البشير باجراء انتخابات لم تدخلها جميع القوى الحزبية ذات الوزن في الحياة السياسية السودانية، وانتخابات نقابية قاطعتها المعارضة كلها معلنة عدم توفر مناخ سياسي ملائم: وأخيراً وصل الأمر الى غايته بعد الاتفاق الذي وقع في جنيف بين حركة التحرير الشعبية التي يتزعمها جون قرنق عضو قيادة التجمع الوطني الديمقراطي وبين حزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه الترابي والذي أرسل ابن شقيقه مفوضاً عنه للتوقيع على الاتفاق.

ولا شك ان اقدام الترابي على توقيع الاتفاق هو امر يدل على انه رجل تكتيك يُقْدم على خطوات قد يضحي فيها بالاستراتيجية التي كان يلتزم بها، فبنود الاتفاق اكثر اقتراباً من استراتيجية الحركة الشعبية لتحرير السودان وافكارها التي لم تتراجع عن مطالبتها بوحدة وطنية ديمقراطية تتوفر فيها حرية العبادة وحقوق الانسان، وفيها ابتعاد واضح عن شعارات جبهة الانقاذ التي تلتزم بتطبيق الشريعة الاسلامية وبعدم فصل الدين عن الدولة.

وجاء اعتقال الترابي وأعوانه وادخالهم الى السجن دليلاً على ان نظام البشير يعتمد على قانون الطوارئ الذي ما زال مطبقاً رغم الانتخابات المتسرعة التي تمت على اساس اعتبره البعض قائماً على التعددية، وحجة على ان هذا الاتفاق يشكل خطراً حقيقياً على نظام الخرطوم الذي تعرض لنقد جاد واضح من المؤتمر الشعبي بهدف اسقاط ديكتاتوريته حسب اقوالهم، ودليلاً على تشبث حزب المؤتمر بأفكار جبهة الانقاذ. وعلى ان حزب الترابي قد استخدم خطة اصبح بها قريباً من قوى المعارضة التي تحتشد في التجمع الوطني الديمقراطي مما يضعف محاولات البشير للتفاهم مع القوى الحزبية التي عادت الى السودان.

ولا شك ان وضع الترابي وأعوانه خلف القضبان هو امر لا يحقق الهدوء والاستقرار في السودان بل العكس هو الصحيح لأن حزب المؤتمر الشعبي لن يستكين وله انصار في اماكن تجمع كثيرة وبعضهم ينتمي الى الميليشيات المسلحة. والذين وقعوا اتفاقية جنيف باسم الحزب اعلنوا عدم عودتهم للسودان مما يشكل نواة لمعارضة خارجية جديدة الى جانب التجمع الوطني الديمقراطي.

وهكذا تفرض احداث السودان نفسها من جديد على الساحة السياسية العربية التي تعتمد اساساً على المبادرة المصرية ـ الليبية التي قال وزير الخارجية المصري عمرو موسى انها ستوجه الدعوة لجمع اطراف المعادلة السودانية خلال الشهر الحالي، وهي التجمع الوطني الديمقراطي وحزب الأمة وحزب المؤتمر الوطني الحاكم من دون اشارة الى حزب المؤتمر الشعبي الذي لا يمكن تجاهل وجوده اذا كان المستهدف هو ملتقى للحوار الشامل من اجل المصالحة.

وليس أمام القوى الساعية لعودة السلام والاستقرار الى السودان سوى الحرص على نجاح هذا الملتقى بالعمل على انهاء قانون الطوارئ حتى يتم الحوار في جو من الحرية والديمقراطية وتنتهي الأمور بعد 12 عاماً من انقلاب ما سمي بالانقاذ الى أوضاع طبيعية لا تجعل من السودان اكثر الدول العربية فرضاً لنفسها على الساحة العربية والدولية بما يتفجر فيها من خلافات وانقلابات.