نظريا: تحقق حلم اتحاد الولايات الأفريقية! وعمليات: إسدال الستارة على اسم منظمة الوحدة!

TT

بدا الزعيم القذافي في نهاية قمة سرت.. الاستثنائية يفيض بالبشر والسعادة وهو يرى حلمه الذي نذر له نفسه منذ ان استولى على السلطة في ليبيا، منذ اكثر من ثلاثة عقود يتحقق، وإن في غير المسار العربي الذي جاهد ان يحقق فيه حلمه في اطر متعددة، من وحدة رباعية الى ثلاثية، الى ثنائية، وكلها اخفقت! لكن كل التجارب المريرة التي مر بها لم تجعله يتراجع، او يراجع اسباب الاخفاق في ضوء الحقائق الواقعية، انما قفز بحلمه من محيطه العربي الى ما هو أوسع واكثر تشعبا، الا وهو الحلم بتحقيق الوحدة الافريقية على مستوى القارة كلها.

ولعل ما يحسب للعقيد وعليه، ان اخفاقه في تحقيق الوحدة العربية أدى الى ان يدير ظهره لعالمه العربي غاضبا الى درجة الابتعاد عنه، ان لم نقل وصل الى حافة الانسلاخ منه، وهذا يندرج في ما يحسب عليه. اما ما يحسب له فإن عشقه للوحدة الافريقية بالرغم من كل العقبات التي اصطدم بها، والمجهودات الخارقة التي بذلها فإنه رضي بالقليل الذي تحقق وهو تغيير اسم منظمة الوحدة الافريقية الى مسمى الولايات المتحدة الافريقية، وفي رواية أخرى: اتحاد الدول الافريقية. وما كان بوسعه ان يفعل اكثر من ذلك في ظل الظروف التي تمر بها القارة التي تشهد ما لا يقل عن عشرين حربا اهلية فيها، او بين دولها، لاسباب عديدة منها: العرق والحدود وتداخل المصالح.

ولا ريب ان مجمل التوصيات التي اقرت لتفعيل الوحدة الافريقية ستظل على المدى القريب موضع خلافات كثيرة وعميقة حول الآليات التي يناط بها تسييرها، ناهيك من الامكانيات التي تجعل مجرد البدء في تطبيقها متوافرة بسبب الفقر، وانعدام الديمقراطية، وعدم مراعاة حقوق الانسان. وهذه العوامل الثلاثة تعتبر من اهم المعضلات التي تواجه القارة فضلا عن المرض.

وقبل ان نسهب في تناول الركائز التي اعتمدت عمادا للوحدة التي اقرت في مؤتمر سرت.. نذكر بأنه ما كان لاربعين دولة ان تحضر المؤتمر الاستثنائي لولا تكرم العقيد بدفع متأخرات اشتراكات عشر دول منها، كانت عاجزة عن دفعها! وقطعا ان اكثر من نصف الدول الاعضاء في المنظمة تجد صعوبة حقيقية في دفع كل مستحقات المنظمة عليها، رغم تفاهة المبالغ، بسبب شح امكاناتها.

وطالما نتحدث عن شح الامكانات المادية، دعونا نبدأ بالتوصية الخاصة بانشاء مصرف مركزي افريقي، ونقول على الفور: ما هي الاموال التي ستتمركز فيه اذا كان هذا هو الحال؟ واذا كانت افريقيا تئن بمديونية تتجاوز 340 مليار دولار، وقد بح صوتها من التوسلات طلبا لشطبها او تقليلها، او اعادة جدولتها، او تجميد ارباحها ولم تجد بعد استجابة شافية من المجتمع الدولي. وبالرغم من هذا الفقر المدقع هناك من يحلمون بتوحيد العملة، ومن يتحدثون عن جيش افريقي واحد، ومجلس امني مواز لمجلس الامن الدولي، وكلها احلام طموحة لكنها بعيدة المنال!.

اما الركيزة الثانية التي اعتمدت، فهي انشاء برلمان افريقي يتألف من برلمانات افريقيا، وهذه التوصية بكل ما فيها من عدم واقعية كانت موضع خلاف كبير في اجتماع المجلس الوزاري لوزراء الخارجية، حيث تحفظت مصر ونيجيريا واثيوبيا على مبدأ العضوية المتساوية، متمسكة بضرورة الاخذ بالتمثيل النسبي، فتعداد هذه الدول الثلاث يشكل ما يقرب من عدد نصف سكان القارة، التي يبلغ عدد دولها 53 دولة، ولهذا فهي محقة في مطالبتها، لكنه رؤي ان تكون الدورة الاولى بمثابة دورة انتقالية ستتركز مهامها في المسائل الاجرائية، وبالتالي فإن التمثيل النسبي يمكن اعتماده لاحقا.

ومع وافر الاحترام والتقدير لفكرة انشاء البرلمان الافريقي، ولأهمية الجدل في ما يتعلق بمسألة التمثيل النسبي، من حقنا ان نتساءل: اين هي البرلمانات الديمقراطية في الثلاث والخمسين دولة افريقية؟! الواقع يقول: ان معظمها لا تتمتع ببرلمانات اصلا، وبعضها برلماناتها ديكورية، وقليل منها فيها برلمانات حقيقية. اذن لا بد ان يسبق اعتماد هياكل وهمية لبرلمانات صورية، او لا وجود لها، تأسيس برلمانات وطنية تقوم على اسس ديمقراطية حقيقية في كل الاقطار الافريقية، وان يكون قيام تلك الديمقراطية شرطا رئيسيا لقيام الاتحاد الافريقي، او الولايات المتحدة الافريقية، واية دولة لا تعتمد الديمقراطية منهجا والتعددية قاعدة، لذلك المنهج لا سبيل لأن تكون عضوا في ذلك التجمع. وما لم يتحقق هذا الشرط فلا سبيل لتناغم في الرؤى ووحدة في المسالك، وطريقة مثلى لاتخاذ القرارات، ومساواة في التعامل بين مواطني الدولة المتحدة.

وبالطبع لن تكون هناك نظرة متساوية ايضا من العالم لهذا الاتحاد وفقا لمعايير التعامل الدولي التي تقوم على التفريق بين دولة تحترم حقوق الانسان وأخرى تصادرها، دولة تعتمد الديمقراطية والشفافية، وثانية تعتمد الدكتاتورية، ويتفشى الفساد فيها. وهذه النظرة العالمية يترتب عليها الكثير سواء في المعونات او القروض، فضلا عن نهج الاقتصاد الحر والاقتصاد المقيد الى آخره.

وننتقل الى الركيزة الثالثة، وهي قيام محكمة عدل افريقية، ومن اولويات هذه المحكمة حماية حقوق الانسان الافريقي. وهي فكرة عظيمة بلا شك. ولكن كيف ستتشكل؟. وكيف تمارس صلاحياتها، اذا كانت حقوق الانسان الافريقي في الغالب الاعم منتهكة ومسلوبة بواسطة اعداد كبيرة من الرؤساء الافارقة الحاليين والسابقين؟ ومن ابجديات السلوك في النظم الدكتاتورية استلاب استقلالية القضاء والاستهانة بالعدالة، وتفريغ القوانين من مضامينها، ان لم يكن نصيبها التجميد او الالغاء، وحكام هذا شأن معظمهم كيف سيقبلون عمليا انشاء محكمة عدل لها نفس مواصفات محكمة العدل الدولية؟.

ولا شك ان قيام محكمة بهذه المواصفات لن يتحقق إلا في ظل مناخ ديمقراطي، تكون فيه سيادة القانون فوق الجميع دون اعتبار لحاكم او محكوم. وانشاء محكمة بهذه المواصفات سيكون من اوائل الذين يمثلون امامها عدد كبير من حكام افريقيا الحاليين لينالوا الجزاء المستحق على ما ألحقوا بمواطنيهم من تعذيب وتنكيل وسلب للحقوق الانسانية والمادية. اذن فإن محكمة عدل افريقية بهذه المواصفات لن ترى النور في ظل هذه الاوضاع الراهنة لغياب الديمقراطية اولا، ولأن معظم الرؤساء لا يعترفون ولا يحترمون حقوق الانسان ثانيا، ولأنها لا تخرج عن طور الاحلام المتمددة في وجدان العقيد القذافي.

وحتى لا نظلم الرجل في احلامه النبيلة، مهما اختلف الناس حول دوافعها ومراميها، يلزمنا ان نذكر ان كل هذه المقترحات واكثر منها قد ورد في اطروحات وتوصيات تبنتها قمم سابقة، لعل ابرزها قمة ابوجا في نيجيريا في اوائل التسعينات، لكنها ظلت ساكنة الى ان جاء العقيد وحركها بقوة بفكرته التي انبثقت عام 1999، حيث رأى ان يتوج عامه الثلاثين في الحكم بمهرجان كبير دعا له قمة افريقية استثنائية، ناقشت فكرة قيام الولايات المتحدة الافريقية في 9 / 9 / 1999 وباركتها، وقرر وقتها دعوة قمة استثنائية أخرى في هذا الشهر لاستكمال قيام المشروع. ساعتها اعطت القمة احتفالات الفاتح من سبتمبر زخما كبيرا ضاعف من كسر العزلة المضروبة من الولايات المتحدة على ليبيا. وكان بمثابة تعبير عن اعتزاز ليبيا بالدور الافريقي في كسر الحصار المفروض عليها. ولكن منذ انعقاد القمة الاستثنائية الاولى وحتى الثانية، التي انعقدت بالامس، لم ينجز ما كان ينبغي انجازه من عمل حتى يكون التدشين اكثر فاعلية، فحتى التصديقات الاولية من الناحية الاجرائية لم تكتمل بعد، اذ تقتضي اللوائح ان تكون المصادقة على المشروع من ثلثي الاعضاء، إلا انه حتى بعد انعقاد المؤتمر الثاني لم يكتمل النصاب بعد، وان بقيت اربع دول فقط بتوقيعها يكتمل النصاب. وليس من الصعب على العقيد بمثابرته وعطائه الثري ان يحصل على تواقيعها في وقت قريب. ولكن مع ذلك يبقى المشروع قد اكتمل انجازه من الناحية النظرية، وما اصعب التطبيق في افريقيا بكل ما فيها من مشاكل وازمات وتباينات! وسيجد العقيد دوما الكثير من الرؤساء منبهرين بالفكرة وشادين على يديه متطلعين الى مزيد من الدعم ومزيد من الوقت والجهد لدفع الاوضاع باتجاه تحقيق الحلم البعيد المنال. وعلى العقيد ان لا ييأس وان يمد حبال الصبر طالما الحلم من الناحية النظرية قد تحقق. وسيكتب له التاريخ ان سيادته بعد اربعين عاما من مبادرة الآباء الذين اسسوا منظمة الوحدة الافريقية قد استطاع ضخ الحيوية في آمال الوحدة الافريقية. وانه بجهد عظيم تمكن من تحويل منظمة الوحدة الافريقية الى مسمى اتحاد الدول الافريقية، توطئة لتحقيق تنظيم يماثل اتحاد الدول الاوروبية، او على غرار الولايات المتحدة الامريكية!.

ان مجرد الترويج لهذه الآمال وجعل حداء الوحدة على النطاق الجماهيري مطروحا على طاولة التداول هو من الامور التي تجعل التفكير متصلا في البحث عن انجع الوسائل لبلوغ هذه الاهداف بالتدرج المطلوب، لأن عصر العولمة يقتضي قيام التكتلات الكبيرة. والمطلوب ان لا تتعرض القارة في هذه الظروف الحرجة والحساسة لمزيد من الانهيارات والتفكك. لأن عملية الانتقال من آليات ومؤسسات منظمة الوحدة الافريقية الى الاشكال الجديدة المقترحة للمسميات الجديدة يخشى ان تواجه بانتكاسة بسبب بعض التعقيدات والحساسيات، خاصة ان هناك ترشيحات لأن تكون مدينة سرت هي المقر الجديد لاتحاد الدول الافريقية، علما بأن المقر الحالي لمنظمة الوحدة الافريقية هو العاصمة الاثيوبية، التي كان اختيارها قبل اربعة عقود في عهد الامبراطور هيلاسلاسي موضع جدل واخذ ورد وسط حكماء افريقيا في ذلك الزمان.

لقد جاء في الكلمة الختامية للعقيد القذافي في مؤتمر سرت، وهو يدشن قيام الوحدة الافريقية، ان افريقيا قوية بهذه الوحدة رغم انها لا تملك السلاح النووي وغيره من الاسلحة، وكل ذلك حديد يصدأ! وتحدث عن دخول رئيس توجو التاريخ بحسبانه آخر رئيس لمنظمة الوحدة الافريقية، وفي ظل رئاسته ولدت الوحدة الافريقية، كما ان رئيس زامبيا سيدخل التاريخ هو الآخر لكونه سيكون بعد اشهر قليلة اول رئيس للاتحاد الافريقي عندما يتسلم الراية من رئيس توجو. وتواضع العقيد فلم يذكر نفسه او بلده، لكن القمة اشادت بدوره الرائد بحسبانه صاحب فكرة هذه النقلة التاريخية العظيمة.

ولعل العقيد يحسن صنعا لو سخر قدراته وامكاناته في توفير وتوظيف الآليات التي من شأنها اطفاء الحرائق المشتعلة حروبا في ثلث القارة تقريبا، وتبنى مشروعا اقتصاديا كبيرا بحسبانه الاوفر مالا، لكي تترجم طموحاته في الوحدة في عمل ثابت وراسخ يحسب له، سواء في الطرق او المواصلات او علاج الامراض التي تهدد وجود الانسان الافريقي نفسه.

وكل عمل من هذا النوع يدفع بحق على طريق بناء الوحدة الافريقية الى ان تكتمل الركائز الاساسية لتحقيق الوحدة الفعلية، والتي من اهم اولوياتها تحرير الشعوب نفسها من القهر والحكومات الفاسدة والاستبدادية. وذلك عن طريق الالتزام بقرار منظمة الوحدة الافريقية الرافض للاعتراف بأي حكم يصل الى سدة السلطة من على ظهر دبابة او تطوير هذا الالتزام لكي تتحول كل افريقيا الى نمط الحياة الديمقراطية الحقة. وهذا يتطلب اول ما يتطلب ان يعيد العقيد النظر في الكيفية التي تحكم بها ليبيا طالما حلمه الكبير هو وحدة افريقيا.