ماما أميركا: لجم شارون والحسم مع صدام

TT

ثلاثة اسابيع تفصل المنطقة العربية عن القمة. المسافة الزمنية قصيرة لكنها ستكون حافلة بالمفاجآت. والمفاجأة الكبرى غير المتوقعة هي ان لا تكون هناك مفاجأة! اي ان لا يحدث ما يعكر حالة انتظار العرب لقرارات حكامهم.

ونحن نحتفل بهذه الايام المباركة في اكبر اعياد المسلمين، فمن التفاؤل ان لا نتوقع شرا ريثما نصل الى القمة. لكن المنطقة تواجه واقعا دراماتيكيا جديدا اعاد تغيير الشاشات التي تتوالى عليها المشاهد وتتركز عليها الانظار.

فقد انهارت عملية السلام، ودخلت الانتفاضة شهرها السادس، ووصلت الى واشنطن ادارة اميركية جديدة، وتستعد حكومة شارون لتولي السلطة في اسرائيل. ثم هناك الاختراق العراقي لاكثر من بلد عربي، يقابله رد فعل اميركي لاستعادة زمام المبادرة من صدام.

ومن البديهي في هذا الواقع الخطر ان ينتظر المرء مفاجآت الغرض منها التأثير على القرارات والمواقف في القمة العربية. ولا شك ان جولة الوزير باول كانت للتهدئة بعدما انتقلت المنطقة من دائرة السلم الى دائرة المواجهة. لكن بقدر ما تريد «ماما أميركا» ضبط ولجم الشقي شارون، فهي تصعد الردع مع المشاغب في بغداد.

لقد ارسل شارون الى العرب اشارات متناقضة، تتراوح بين التلويح بغصن الزيتون وتهديد عرفات وسورية. ورجل اعتمد المفاجأة غير المتوقعة في حياته السياسية والعسكرية ليس مستبعدا ان يلجأ الى اقتحام واحتلال بعض المدن الفلسطينية، او القيام بعمليات خاطفة عبر الخطوط والحدود ضد سورية في لبنان او في سورية ذاتها.

ومن خلال جولة باول، بات موقف ادارة بوش واضحا بالنسبة للقضية الفلسطينية. فهي اقرب الى موقف اسرائيل شارون الداعي الى وقف «العنف» الفلسطيني في مقابل استئناف المفاوضات. وهي تنصح عرفات بالتخفيف من زخم الانتفاضة، اي الاكتفاء بالحجارة، ومنع العمليات المسلحة، والعودة الى التنسيق المخابراتي مع الاسرائيليين كشرط لتنفيذ وعد شارون برفع الحصار الاقتصادي وسحب القوات من مفاصل الالتحام مع الفلسطينيين.

باول عائد مرة اخرى الى المنطقة على الرغم من ان ادارة بوش اعلنت عن عدم رغبتها في التورط اليومي المباشر في المفاوضات، او فرض خيارات او تقديم حلول. لكن مراكز البحوث الاميركية المهتمة بقضية الشرق الاوسط تفسر اصرار شارون على ترك 42 بالمائة فقط من الضفة للفلسطينيين بمثابة دعوة لعرفات الى اعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد على هذه المساحة المحررة.

عرفات رفض اقتراح شارون خوفا من استئنافه الاستيطان وتهربه من مفاوضات الحل النهائي، لكن يبدو ان باول طمأن عرفات الى ان شارون ملزم بالدخول في مفاوضات الحل النهائي بحكم تركيب حكومته الائتلافية.

بيريز هو ضمان التعهد الشاروني. فقد اعلن ان شارون قَبِل باستئناف المفاوضات على اساس اوسلو. وقال انه سينسحب من الحكومة اذا اقتحم شارون المناطق الفلسطينية، او استخدم القوة المسلحة دون حساب سياسي. لكن هذا الضمان ليس كافيا نظرا لهشاشة حكومة شارون والخلافات الواضحة بين اليمين واليسار فيها حول الحل النهائي.

القلق العربي هنا من ان يعمد شارون الذي ركب موجة «الامن والهيبة»، الى اشعال «حرب وقائية» في المنطقة، في حالة اخفاقه في تطويق الانتفاضة او القضاء عليها، ولا شك ان نوايا شارون سلبا وايجابا هي محل دراسة ومراجعة في العواصم العربية المعنية في هذه الايام السابقة للقمة.

ويمكن تلخيص الرؤية الاستراتيجية العربية في ان العجز العسكري العربي امام التفوق الاسرائيلي لا يمنع من ادامة الحرب مهما كان انتصار اسرائيل الخاطف كبيرا، ومهما اتسعت رقعة احتلالها لاراض جديدة.

ويقول بعض خبراء الاستراتيجيا العرب ان التلويح صراحة لشارون بالاستعداد للدخول في حرب استنزاف مع قواته مهما كانت تكاليفها وخسائرها وعدم القبول بالضغط الاميركي والدولي لوقف الحرب بعد الانتصار الاسرائيلي كما حدث في الحروب السابقة، هو الكفيل بردع شارون، واجباره على الانسحاب، كما حدث في لبنان، وبالتالي العودة الى مائدة المفاوضات الكفيلة عند ذلك بتحقيق سلام متوازن.

«ماما أميركا» لا تريد من شارون ان يقدم على عمليات او مفاجآت تجعل تصعيد مواجهتها لصدام غير منطقي ولا معقول في الرؤية العربية. لقد بات واضحا ان الجانب الظاهر من مخطط ادارة بوش يتلخص في تخفيف الحصار الاقتصادي لشعب العراق، وتشديد الحصار العسكري والاستراتيجي على نظام صدام.

لكن ذلك يتطلب تعاون الدول المحيطة بالعراق التي اظهرت اخيرا تجاوبا مع محاولات صدام خرق الحصار، وهي سورية والاردن وتركيا. والغرض اقناعها بان اميركا لم تعد تعارض تعامل الآخرين الاقتصادي والنفطي مع العراق، لكن لا تريد السماح لصدام بالحصول على موارد مالية اضافية من التهريب عبر الحدود.

من هنا كانت محادثات باول مع الرئيس السوري اهم محطة في جولته. والمدهش وخلافا للحماسة السورية لرفع الحصار، فقد انتزع باول من الرئيس بشار تعهدا بتحويل عوائد النفط العراقي الذي عاد الى المرور في الاراضي السورية الى صندوق الامم المتحدة الذي يدير حسابات عملية «النفط في مقابل الغذاء». ولم يعرف بعد ما اذا كان الموقف السوري الجديد سيؤدي الى فتور العلاقة المتجددة مع العراق.

ولعل سورية تلقت في مقابل هذا التعهد تطمينات اميركية بتحريك المسار التفاوضي السوري، وبمنع شارون من التعرض عسكريا لسورية، وبعدم التدخل الاميركي في العلاقة السورية ـ اللبنانية كما صرح بذلك علنا في بيروت ادوارد ووكر نائب وزير الخارجية الاميركي. غير ان من المؤكد ان ادارة بوش لا تنظر بارتياح الى محاولة دمشق انشاء محور يربط دمشق بطهران عبر بغداد.

اما الاردن فيتجاذبه حاليا تنافس عراقي ـ اميركي. فهو موعود بمنطقة تجارية مع العراق اذا تجاهل الحصار، في حين تعلق واشنطن ابرام اتفاق المنطقة الحرة الاميركية ـ الاردنية ريثما تقدم عمان التزاما بضبط حدودها مع العراق.

العواصم العربية تنتظر قبل القمة بلورة تفاصيل برنامج تخفيف المعاناة عن الشعب العراقي، والامر معقد لانه يحتاج الى مراجعة قوائم لا تنتهي من السلع التموينية والعسكرية، ثم اضفاء «الشرعية» الدولية والعربية على البرنامج بتمريره في مجلس الامن المنقسم على نفسه ثم في القمة العربية.

موقف القمة من الوضع في غزة والضفة سيتحدد في ضوء تصرف وسلوك حكومة شارون خلال الاسابيع الثلاثة. وعلى اية حال، فعلى القمة حسم مشكلة تغطية رصيد صندوقي الدعم المالي للفلسطينيين، وعجز لجنة المتابعة الى الآن عن ايصال الرصيد المتوفر في الصندوقين الى الفلسطينيين المحاصرين.

تبقى مشكلة صدام. والانقسام العربي ظاهر منذ الآن. فهناك دول كالاردن ومصر وربما سورية تطالب باسقاط الحصار نهائيا بغض النظر عن القرارات الدولية. وهي تنظر بفتور الى برنامج تخفيف الحصار الذي يرى فيه العراق مسبقا محاولة اميركية للسيطرة على موارده النفطية. اما دول الخليج فهي تقبل برفع الحصار الاقتصادي عن كاهل شعب العراق، لكن مع الزام صدام بتنفيذ القرارات الدولية لمنعه من اعادة بناء اسلحته الاستراتيجية وتهديد الدول الخليجية بها.

وفي غمرة الانتظار والفوضى والمستجدات الطارئة في المنطقة، يواصل العراق حملته الديبلوماسية والدعائية في العواصم العربية، مركزا على اجتذاب الهيئات الشعبية غير الرسمية. وقد تدفق المال العراقي بسخاء لشراء الضمائر والمواقف في اكثر من عاصمة عربية، وصولا حتى الى «جيوب» صحفية عربية متعددة في باريس ولندن.

انقسام الدول الكبرى في مجلس الامن يتركز حول رفض روسيا وفرنسا والصين غارات بوش على صدام. وهي تفضل رفع الحصار على تخفيف العقوبات، لكن كل الدول الكبرى مع الزام العراق بعودة المفتشين الدوليين. والمؤسف ان العراق رفض في محادثاته الاخيرة مع الامم المتحدة السماح بالتفتيش الدولي، على الرغم من نصائح مصر وفرنسا وروسيا، الامر الذي سوف يحول دون رفع الحصار كما يطالب العراق، ويثير الشكوك حول ادعائه بانه لم يعد يملك اسلحة استراتيجية.

المفاجأة التي ستزيد من الانقسام العربي والدولي هي في اقدام ادارة بوش على تصعيد المواجهة مع صدام بانشاء «محمية» اميركية لجيش المعارضة العراقية في بطن العراق الليِّن (الصحراء) اذا ما قررت واشنطن الانتقال من مرحلة استيعاب صدام الى مرحلة الحسم معه واسقاطه.