صدفة نجيء.. صدفة نذهب!

TT

لا أعرف متى لم أكن وجوديا ـ من دون أن أدري!

أما الطفولة فهي الخوف والعزلة والاستسلام لكل ما تراه أمي صحيحا. ولم أعرف إلا في سن متأخرة أن أمي لا تقرأ ولا تكتب، فيكف تدير حياتي.. وأنا الذي علمتني الفلسفة أن أعيد ترتيب الكون ومساره من الوجود الي العدم ومن العماء الطبيعي الي البهاء الإلهي.. وكيف أنني كنت حجرا متحركا لا تنبت عليه أعشاب الصداقة والمودة والأخوة.. وكيف أنني ولدت في بطن الحوت.. فلا هو أبي ولا أمي.. وكيف أنني صدفة.. وكان من الممكن ألا أكون، فعندما كان أبي يعمل مأمورا للزراعة عند عدلي باشا يكن، رئيس وزراء مصر الأسبق، كان كل شهر يحمل إيجار الأراضي الواسعة وثمن المحاصيل الزراعية.. وكان كل الناس يعرفون اليوم الذي يركب فيه أبي الحصان ووراءه الحراس يركبون حميرا ويخوض في حقول القصب متجها الي القطار الذي سينطلق الي القاهرة الي معالي الباشا. في تلك الليلة وفي ضوء القمر وصمت القبور أطلق الحصان صهيلا مفاجئا بما معناه أن هناك أحدا قد رآه الحصان. فبغريزة حب البقاء والسلام قال أبي لمن لا يراه: السلام عليكم. وسمع من يرد عليه: عليكم السلام يا حضرة المأمور!

ومن أخلاق اللصوص وقطاع الطرق أن من سالمك لا بد أن تسالمه. هذا اللص قتله زملاؤه لأنه أضاع عليهم الفلوس التي كان يحملها أبي الي الباشا.. ولولا أن اللصوص عندهم أخلاق ما ولدت. ولا كان لي وجود.. فقد ولدت بعد هذا الحادث بعام واحد. د.عبد الرحمن بدوي في مذاكرته الاخيرة قال إنه هو أيضا ولد صدفة بعد أن انطلق على والده عيار ناري، وتصادف أن انحنى والده يلتقط شيئا على الأرض. ونجا من الموت وبعدها بعام ولد عبد الرحمن بدوي.

وهكذا وجودنا علي الأرض صدفة. فلا دخل لنا فيما حدث. ومنذ الولادة فنحن كالذي أسقطوه بالمظلة ومعه معلومات قليلة عن الدنيا التي سقط فيها. وعليه أن يعرف وأن يقرر وأن يستدرك وأن يغرس عصاه في كل أرض. فهو حر في أن يحتار وأن يختار.

بهذه المعاني التي لم أخترها ولم أقررها ولا أعرف كيف عشت بها، وفيها وجدت نفسي مؤهلا تماما لأن أكون وجوديا وأن أكون مدرسا لها في الجامعة وداعية لها ومؤلفا لأول كتاب بالعربية السهلة عن الوجودية والوجوديين. ولأننا عانينا العذاب أشكالا وألوانا ونحن نقرأ الوجودية الألمانية وفلسفات أخرى عند هوسرل وعند هيدجر، فكان سارتر بليغا ممتعا رائعا سهل العبارة في المقال والقصة والرواية والمسرحية والدراسات الفلسفية. لقد بهرنا وأمتعنا وتعمق في حياتنا كلما تعمقنا فيه.. ولم أره إلا ثلاث مرات، اثنتين في باريس ومرة في القاهرة.

وسارتر مثل سقراط كان دميما. قصيرا أحول العينين مثل الحاجظ والحريري صاحب المقامات والشاعر البحتري والمفكر أبو حيان التوحيدي، وكان تلامذة سقراط عندما يقدمونه للناس يعتذرون عن دمامته فيقولون: لا مؤاخذة هذا أستاذنا سقراط!

وقد ترجم له الدكتور عبد الرحمن بدوي «الوجود والعدم»، وترجم له د.عنيمي هلال «ما الأدب»، وترجمت له «الوجودية مذهب إنساني».

وانحسرت الفلسفة الوجودية. فقد كانت زيا أو موضة عقلية لزمن مضى.. وليس صدفة ان يولد مع جان بول سارتر مصمم الأزياء كريستان ديور سنة 1905. هذا صاحب موضة فلسفية وهذا صاحب موضة في الأزياء بدأت (بنيولوك) بأن طال الفستان الي منتصف الساق مع الخصر المزموم.

وقد جاءت من بعد موضة الوجودية والنيولوك موضات اخرى.. وإن كانت الوجودية في ذكراها المئوية هذا العام هي أروعها وأبدعها وكانت «قوس قزح» الذي يرتسم زاهيا على سحاب أسود.. هو ما تبقي في النفوس بعد أن انهارت المذاهب الشمولية في أوروبا.

وليس هذا نعيا لأنفسنا ولا للفيلسوف العظيم سارتر.. وإنما هي نظرة دهشة لمن ينظر الي ملابسه عندما كان طفلا صغيرا تبهره الألوان والزراير الذهبية والسلاسل والماس.. وكان سارتر كل ذلك وأكثر.. وقد كبرنا!