أخطأ حزب الله عند طرحه ورقة العدد

TT

يتردد في مجالس لبنانية كثيرة انه منذ الانسحاب الاسرائيلي من لبنان عام 2000 صار حزب الله مقاومة انما من دون قضية. وخلال السنوات الاربع الماضيات، كي يحافظ الحزب على عدد مقاتليه المسلحين، ظل يطرح مسألة ان اسرائيل لا تزال تحتل ارضا لبنانية «مزارع شبعا» وهذا الطرح رفضته الامم المتحدة واسرائيل وفئة كبيرة من اللبنانيين، والى حد ما وبهدوء بعض كبار أعضاء حزب الله نفسه، ويفسر الكثيرون ان محاولات حزب الله، خصوصا الاخيرة منها، مثل المظاهرة الضخمة التي سيّرها في الثامن من هذا الشهر، تهدف الى بقائه «دولة ضمن الدولة»، لكن هل يستطيع ذلك؟

يرى كثير من اللبنانيين ان حزب الله ضيّع فرصة ذهبية، اذ كان يستطيع ان يعلن انتصارا تحريريا في ايار (مايو) عام الفين، حيث كان لديه آنذاك دعم شعبي كبير، فينصرف بعد ذلك الى تحويل ذاته الى حزب سياسي فعّال على الساحة اللبنانية، لكنه لم يرد ذلك لاسباب خاصة، وكذلك لأن ارتباطاته الاقليمية بسوريا وايران لم تسمح له بذلك. ويقول الدكتور حبيب شارل مالك، إنه منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم فإن تأخير تعافي لبنان ووصول اي مساعدات لجنوبه وانتشار الجيش في الجنوب، أي اظهار كل ما هو مطلوب في بلد متحرر بسبب حجة مزارع شبعا او مسمار جحا على الارجح، كان تأخيرا مضرا بلبنان. ويضيف الدكتور مالك أن المعارضة اللبنانية اليوم تمد يدها وتقول بكل وضوح لحزب الله ان الاوان لم يفت بعد، ويجب التحول الى العمل السياسي، وأي عمل تحريري او أي عمل يندرج في خانة المقاومة يحتاج بعد اليوم الى إجماع لبناني. ويلفت مالك الى ان هذا الاجماع غير موجود، «وقد رأينا ان الامين العام لحزب الله حسن نصر الله على استعداد للنظر في هذه النقطة، فهو قال انه مستعد للحوار، وانه ليس لديه شروط مسبقة، ويدرك انه في حاجة الى اعادة ثقة مع سائر اللبنانيين والى إجماع لبناني ليستمر في النمط الذي انتهجه».

بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ظل حزب الله صامتا لمدة اسبوعين، تقريبا، يراقب طروحات المعارضة وينتظر ردود فعل سوريا، فأصيب بالارتباك، خصوصا ان اطراف المعارضة، قسم أكد تمسكه باتفاقية الطائف وان يتم الانسحاب السوري على اساسها، وقسم رأى ان القرار الدولي 1559 انهى اتفاقية الطائف، وقسم ثالث بحث عن معادلة تجمع الاتفاق والاتفاقية. لكن ما تجنب ذكره الجميع وفضّل حزب الله عدم التذكير به، ان اتفاقية الطائف تنص على نزع سلاح كل المليشيات في لبنان. واذا كان حزب الله اعتقد ان صمته او وقوفه على الحياد، بعد مقتل الحريري، يوفر له دور الجسر الذي يقرب بين كل الاطراف من لبنانية وسورية، إلا ان هذا الدور انتهى عندما القى نصر الله كلمة في التظاهرة التي دعا اليها في ساحة رياض الصلح. ولوحظ انه اختار يوم الثامن من آذار (مارس) للمظاهرة، وفسر الكثيرون ان اختياره لهذا التاريخ بمثابة المثل الأعلى للحزب، ففي الثامن من آذار 1963 تسلم حزب البعث الحكم في سوريا! ثم اثنى نصر الله على ماضي ومستقبل سوريا في لبنان، واشترط حكومة تحالف وطني ورفض القرار 1559، وطالب بفصل مقتل الحريري عما يجري في لبنان! بمعنى أنه طرح الحزب قوة ضد المعارضة اللبنانية. وكان هذا الطرح مؤلما للكثير من اللبنانيين. ويشرح الدكتور حبيب شارل مالك ان المظاهرة التي جرت، بعد ذلك، في الرابع عشر من آذار أكدت ان الاغلبية الواسعة من الشعب اللبناني (فاق عددها المليون نسمة) لا توافق على النهج الذي سلسله حسن نصر الله، «برأيي ورأي الكثيرين كانت هذه غلطة ارتكبها حزب الله، والغلطة الاخرى المرافقة هي ان حزب الله لعب ورقة العدد. ولعبة ورقة العدد بهذا الشكل، تخسر دائما في لبنان. كان على حزب الله ان يدرك ان هذه اللعبة غير مجدية، انما احب الاسترسال بها فجاءه الجواب في الرابع عشر من آذار وكان مفحما، ان مسألة العدد مسألة دقيقة، وهي خاسرة بالنسبة الى حزب الله».

واذا كانت المعارضة اللبنانية، من اقطاب وانصار، لامت حزب الله على لعب ورقة العدد، إلا انها تفهمت ثناء نصر الله على سوريا ودورها في لبنان، خصوصا بعد التقارير التي بدأت تنتشر والمليئة بتفاصيل ما ارتكب في لبنان مع اسماء مرتكبيها، ورأت ان حزب الله لا يستطيع التملص بسهولة من ارتباطاته بسوريا، حتى لو ارادت قياداته فعل ذلك، وتقول إن يد المعارضة لا تزال ممدودة، والدليل توجُّهُ وليد جنبلاط لزيارة حسن نصر الله يوم الاحد الماضي.

منذ صدور القرار الدولي 1559، وحزب الله يقول انه يرفضه، لكن هل سيؤثر هذا الرفض على تنفيذ القرار؟ يقول احد السياسيين اللبنانيين «ان لدى حزب الله ترف رفض القرارات الدولية، لأنه ليس دولة، انما قيمة هذا الرفض لا شيء، لأن القرارات الدولية ملزمة للدول، وربما تستطيع الدولة رفض القرارات انما تتحمل مسؤولية هذا الرفض، واي فئة غير الدولة تستطيع ان تقول ما تريد، فهذا لا يربطها وبنفس الوقت لا يؤثر على القرار». الكثير من اللبنانيين، خصوصا بعد اغتيال رفيق الحريري، صاروا مع تنفيذ القرار 1559، ويرون ان هناك مجالا لتنفيذ جميع بنوده بشكل هادئ وسلمي وديبلوماسي ومن دون اللجوء الى القوة، ويرون في الوقت نفسه ان حزب الله يواجه مرحلة دقيقة وعليه بالتالي ان يقرر وبسرعة كيف يتعامل مع سائر اللبنانيين ومع الوضع الدولي الجديد، اذ لا يمكنه ان يوجه اسلحته ضد الشعب اللبناني، خصوصا اذا تم، بعد الانسحاب السوري العسكري والأمني من لبنان، ايجاد حل لمزارع شبعا، بأن تتجاوز اسرائيل ملكية سوريا للمزارع وتنسحب منها للامم المتحدة، وهذه بدورها تعيدها الى لبنان، فتسقط نهائيا حجة حزب الله الواهية باسترجاع المزارع عسكريا! اما اذا اصر حزب الله على الاحتفاظ بأسلحته بحجة اسباب اخرى، فليس بالضرورة اللجوء الى العنف لإقناعه بذلك، ويقول الدكتور مالك: «ان سوريا على لسان رئيسها قالت انها مستعدة للاستجابة لهذا القرار، خاصة في البنود التي تتعلق بانسحاباتها».

لقد توقف الكثير من اللبنانيين امام ما جاء في كلمة الرئيس السوري بشار الاسد في الخامس من هذا الشهر، وما قاله للمؤيدين لسوريا في لبنان، بأن هناك 17 ايار مقبل وعليكم ان تسقطوه! وقد كرر هذا الامر وزير خارجيته فاروق الشرع.

حول هذا يقول الدكتور مالك: «انه خلال السنة الماضية حاولت سوريا مرارا اعادة احياء مفاوضاتها مع اسرائيل، اما مباشرة او عبر الولايات المتحدة، لهذا فإن الذي يسعى الى 17 ايار هو سوريا وليس لبنان، مرة اخرى تسمح سوريا لنفسها بما لا تسمح به لغيرها. وقد مل اللبنانيون من هذه العربدة السياسية».

بعد ان صرح حسن نصر الله انه على استعداد للبحث، حتى في الثوابت، ومع استمرار تذكير سوريا بضرورة مواصلة انسحاباتها من كل لبنان، فوجئ الكثيرون بـ «استغاثة» وزير الدفاع اللبناني عبد الرحيم مراد بأن «عديد الجيش اللبناني غير قادر على ملء الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب السوري العسكري من لبنان»، ولا تحمل «استغاثته» إلا تفسيرا واحدا، لن يؤثر، خصوصا ان الكثير انفق على الجيش اللبناني منذ انتهاء الحرب، فهو صار عدده 60 الفا، وكان ينفق عليه حوالي 60 بالمائة من ميزانية الدولة، والآمال الكثيرة تعلق عليه، إن كان كدور أمني او من ناحية انتشاره في الجنوب او على الحدود السورية ـ اللبنانية لضبطها. وكانت وزيرة المغتربين السورية بثينة شعبان قالت في حديث الى الـ «سي. إن. إن» ان القوات السورية ستنسحب من لبنان، «للانتشار على الحدود السورية ـ اللبنانية، تماما كما تنتشر قوات سورية على الحدود مع العراق ومع تركيا».

مع التطورات الاخيرة، والاتصالات المستمرة التي تجري مع حزب الله من قبل اعضاء المعارضة، ومع اقتراح حسن نصر الله اللقاء مع البطريرك الماروني نصر الله صفير، تتأكد اهداف الحزب التالية، من خلال اللغة التي يطرح عبرها اقتراحاته: المحافظة على دور الحزب ودور نصر الله بالذات كاللاعب «الوطني» الاول، رافضا اي عملية يمكن ان تجعله احد القوى السياسية المحلية، رفع دور الحزب الى حامي اتفاق الطائف، وبالذات دعم الموقف السوري في لبنان الذي رسمته دمشق لنفسها منذ انتهاء الحرب، التأكد من بقاء لبنان في حالة مواجهة مع السياسات الاميركية والاسرائيلية، خاصة تلك التي تهدف الى نزع سلاح حزب الله وانهاء السيطرة السورية على لبنان، ويردد البعض ان حزب الله سيرفض تسليم سلاحه لكي يمنع لبنان من توقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل، رغم ان كل اطراف المعارضة تؤكد ان لبنان سيكون آخر من يوقع اتفاقية سلام، مع العلم بان المنطقة كلها تسير نحو المفاوضات والسلام، ثم ان الفلسطينيين انفسهم يعملون للتوصل الى انسحابات اسرائيلية من الاراضي المحتلة، ويسعون الى احياء مبادرة خريطة الطريق.

ويرى الدكتور مالك انه بهذا الطرح، اذا صح، يكون حزب الله يسعى الى «استدراج كل لبنان لخوض مواجهة مع اسرائيل، بسبب مزارع شبعا او غيرها، وهذا الشيء يحتاج الى اجماع لبناني غير متوفر الآن ابدا». وهنا ايضا يقارن اللبنانيون بين حرص الرئيس السوري على بلاده من خلال تحذيره الفلسطينيين من اي خطط لهجمات على اسرائيل توضع في دمشق (حديثه الى صحيفة ايل الموندو الاسبانية يوم الاثنين الماضي) واعتباره وضع حزب الله ولبنان مختلفا! تماما كما وافق هو على قرار 1559 وحث الحزب على رفضه!

لقد اعطت الازمة اللبنانية اخيرا حزب الله دورا قد لا يكون الدور الذي يبحث عنه، وباندفاعه لمواجهة ما يراه الطموح الامبريالي الاسرائيلي ـ الاميركي ممثلا بالقرار 1559، يضاف اليه عدم ثقته بأعضاء من المعارضة اللبنانية، وضع حزب الله نفسه كحامي النفوذ السوري في لبنان، لكن في حين يتحدث انطلاقا من شعوره بأنه منظمة دولية يبقى في الحقيقة فئة لبنانية طائفية، وبالتالي لا يمكنه ان يكون ضامنا او حاميا لسوريا في لبنان، وليس من مفر امامه، سوى مصافحة يد المعارضة الممدودة له للتوصل الى معادلة وطنية تنقذ لبنان، خصوصا ان لجنة تحقيق دولية ستنشأ قريبا لمعرفة من يقف وراء اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقد وافق عليها لبنان الحكم، وهذا يعني ان مواقف اقرب المقربين من سوريا بدأت تتغير هي الاخرى، ولن يستهجن احد ان يخفف حزب الله من طروحاته الرافضة للقرار 1559 .