اتفاق القاهرة: مولود بين يدي الحذر .. والخطر

TT

أثبتت نتائج حوارات القاهرة، أن الطريقة التي اعتمدها محمود عباس في التعامل مع الفصائل، هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تنجح في توفير حالة كافية من التهدئة، وتطوير هذه الحالة بقدر تطور الأداء الإسرائيلي للالتزامات.

لقد حارب شارون هذه الطريقة حين كان عباس رئيسا للوزراء، فأجهض الهدنة وأعاد الصراع الدامي إلى اعنف حلقاته، فكان أن خسر الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي فرصة العودة إلى المسار السياسي، وخسر العالم محمود عباس كرئيس للوزراء.... جاء إلى الموقع جوالا على أجنحة الرغبة بوقف دورة العنف وإعادة الآمال بإحياء مسيرة السلام.

الآن... وقد حدث ما حدث في القاهرة، وهو وفق التقدير الموضوعي للأمور، نجاحا يستحق البناء عليه... والتعامل معه، كنقطة انطلاق نحو محاولة جديدة، لترتيب البيت الفلسطيني، وتهيئة المناخ الملائم للشروع في عملية إصلاح داخلي شامل، وفتح قنوات العمل السياسي مع الجانب الإسرائيلي والعالم...وهنا ينبغي أن نتسلح بقدر عال من الحيطة والحذر من اجل تعميق الإنجاز وتطوير الامكانات الفعلية للاستفادة منه وجني ثمار سياسية، نحن بأمس الحاجة إليها بعد كل هذه السنوات الطويلة من النزف والحصار والتراجعات.

واعني بالحيطة والحذر ألا نغفل عن حقيقة ان شارون الذي اضطر لقول بعض الكلمات الايجابية إزاء ما حدث في القاهرة، يظل له تحليله الخاص وطريقته الخاصة كذلك في التعاطي الميداني...على نحو يفرغ الكلمات الايجابية من محتواها... ويجعلها مجرد مجاملة لحالة إقليمية ودولية تريد تشجيع الفلسطينيين على الاتفاق، وتسعى لتوفير ضمانات نجاحهم في تنفيذ الالتزامات المترتبة عليهم.

وفي هذه الحالة... فان شارون سيواصل الجلوس داخل برج مراقبة أداء الفلسطينيين، مفتشا عن ثغرات ومبررات تتيح له فرصة الانقضاض من جديد، محملا مسؤولية هذا الانقضاض للفلسطينيين الذين فعلوا كذا وكذا... ولم يفعلوا كذا وكذا، إلى آخر هذه الاسطوانة المتكررة منذ زمن.

وحين يوفر شارون قرائنه، سيحملها بالتأكيد إلى الإدارة الأميركية التي ردت بحذر بالغ على نتائج حوارات القاهرة... ليصل معها كما يحدث عادة إلى تفاهم جديد، أو مباركة مباشرة أو غير مباشرة لخطواته المقبلة تجاه الفلسطينيين وقيادتهم.

إن تفاهمات القاهرة التي أخرجت الفلسطينيين من أزمة كانت تطوق أعناقهم بسلاسلها وتهدد بيتهم الداخلي بالتفكك والمزيد من الضعف... لابد ان تحمى، ليس بالنصوص القوية، والاستخدام الإعلامي ذي الطابع الاحتفالي، وإنما بتوفير زخم فعلي لحركة نشطة على الأرض، وحركة أكثر نشاطا تجاه العالم... الذي بدأ يستعيد التوازن في رؤيته لصورة الفلسطينيين، بعد أن جرى تنكيل منهجي بهذه الصورة، أوشكت على ربط الفلسطينيين في ذيل الإرهاب وتشكيلاته المحاربة عالميا.

إننا كفلسطينيين، يجب أن ننظر لما حدث في القاهرة على انه بداية لطريق صحيح نمشيه معا من دون أن نغفل عن الأخطار والألغام المزروعة تحت أقدامنا، وفي كل خطوة نخطوها... وعلينا أن ندرك على نحو جماعي، أن جميع منعرجات هذا الطريق لا يمكن تجاوزها بأمان أو بأقل قدر ممكن منه، إذا ما ظلت أجندات وبرامج الفصائل الخاصة هي أساس المواقف والمسلكيات، وإذا ما ظل التنافس بين الفصائل يتخذ طابع التقاتل على كل شيء وفي كل وقت، وإذا ما ظل كذلك الوطن والشعب كله مجرد مشاريع استقطاب للأجندات والقوى ليس إلا...

لقد أثبتت وقائع الأمس واليوم، انه في هذا الوطن المثخن بالجراح والمثقل بالمآسي حقيقة جوهرية، يتعين على الجميع وعيها والتصرف على أساسها، وهي أن الحد الأدنى من أهداف الإجماع الوطني يتطلب نزع فكرة أو وهم إلغاء طرف للآخر وسيطرة طرف على آخر واحتكار القيادة والنفوذ لطرف إلى ما لا نهاية.

إننا لكي نصمد لأمد أطول، نحتاج إلى تكامل الجهود في إطار شراكة تقوم على أسس راسخة ثابتة، ومن النوع الذي لا نضعه اليوم كي نلغيه غدا، وكي يحقق صمودنا مردوده الفعلي، فلا مناص من الإقلاع عن سياسات ومسلكيات هدفها إظهار من هو الأكثر نفوذا على الأرض، ومن هو الأقدر على حسم القرارات... فلو مضينا في هذا الطريق معتمدين على نتائج استطلاعات معينة، أو انتخابات فرعية في أماكن متفرقة، فان ما سنصل إليه حتما... هو تعميق الخلافات تحت ستار من الاعتبارات النظرية والدعائية، لنكتشف مبكرين أو متأخرين أن ما فعلناه هو بالضبط الغرق في دوامة صراع داخلي لا ينتهي، ولا يفضي إلى نتائج ملموسة على صعيد الوطن وتطلعات المواطن...فما الذي سنفعله أخيرا بحسم الأمر في مجلس بلدي أو جامعة أو جمعية، ونحن لا نملك مقومات حسم الأمر في القضية الأهم وهي إزالة الاحتلال وبناء الدولة!

إن المرحلة الراهنة ليست مجرد مرحلة تفاهم على الأسس وتنافس على المقاعد في أي مكان، وإنما هي مرحلة توفير الوسائل الفعالة للتقدم في قضيتنا الوطنية ونحو أهدافنا الواقعية المشروعة.

إن التنافس المحموم على المواقع... بغية توجيه رسائل نفوذ وقدرة للعالم مع غفلتنا عن حتمية أحداث تقدم فعلي يقنع المواطن بإمكانية نجاح قيادته في أداء مهامها الحقيقية على الصعيدين الداخلي والسياسي سيجعلنا في نهاية المطاف: كالمنبت... لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

إن حوارات القاهرة تبشر بالخير، وما نحتاجه بعد تبادل التهاني، هو خدمة هذا الإنجاز بالفعل، وان يوفر الجميع لأبي مازن، أرضا صلبة يقف عليها في مواجهة شارون، وأسلحة فعالة يستخدمها في مفاوضاته الصعبة معه ـ إن بدأت ـ فنحمل جميعاً محمود عباس في مهمته الصعبة والخطرة، لا أن نفرض عليه حمل أعبائنا وأوهامنا... ودفع ثمن أجنداتنا الممكن منها والمستحيل.

* وزير الاعلام الفلسطيني السابق