«عرابيا» طلقة أخرى في ذخيرة العداء بين الغرب والإسلام ؟

TT

وقفنا في هذه الصفحة مرات عديدة عند الخطاب الغربي الجديد المناوئ للإسلام، مميزين بينه والتقليد الاستشراقي القديم الذي إن لم يخْلُ غالبا من أحكام قدحية سلبية ضد الإسلام والثقافة الإسلامية، إلا أن تلك الأحكام يمكن أن تقرأ إما داخل سياقه النظري الابستمولوجي الخاص من حيث كونه يطبق المناهج التاريخانية، الوضعية المهيمنة على العلوم الإنسانية أو انها، أو من حيث كونه أثرا لمركزية غربية ترتبط فيها علاقات المعرفة بالسلطة حسب قراءة إدوارد سعيد المشهورة للاستشراق في كتابه الذي حمل هذا الاسم.

أما ما نلمسه اليوم في السيل المتواصل من الكتب الصادرة باللغات الغربية الأساسية حول الإسلام فيصدر عن خلفية مغايرة، لسببين أساسيين:

أولهما: ارتباطها المباشر بالحدث اليومي والشأن السياسي، أي بالسياق المتفجر المتولد عن زلزال 11 سبتمبر 2001 الذي وجه الاهتمام إلى المجال الإسلامي عقيدة وثقافة، في مرحلة نشأ اعتقاد واسع ـ خصوصا لدى دوائر صنع الرأي والقرار في الولايات المتحدة ـ إن عقدة العنف والإرهاب المستحكمة في العالم الإسلامي مصدرها الدين ذاته وليس المجموعات المتطرفة وحدها.

ثانيهما: خلو الساحة الغربية من أخصائيين حقيقيين في الدراسات الإسلامية بعد رحيل رموز الاستشراق الأوائل الذين أتقنوا اللغة العربية وحققوا النصوص وأقاموا عهودا طويلة في المنطقة (لعل آخرهم اليوم هو المستشرق الألماني جوزيف فان آس صاحب الدراسات المتميزة في أصول الدين والسياسة الشرعية).

ولقد حضرت أخيرا ندوة فكرية موسعة حول «الاستشراق»، أقر فيها بعض كبار أساتذة الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية بهذه الحقيقة، وكان مستواهم الضعيف في اللغة العربية دليلا كافيا عليها. فأغلب الكتب الأخيرة التي صدرت عن الإسلام، ألفها إما سياسيون ممارسون وبذا كانت موجهة إيجابا وسلبا بسياق العلاقات المتأزمة بين العالمين الإسلامي والغربي، أو صحفيون وكتاب جرفتهم نغمة العداء للإسلام والثقافة الإسلامية التي تولدت عن أحداث 11 سبتمبر، أو كتاب ومحللون سياسيون ارتبطوا بالدوائر الصهيونية النشطة التي اتخذت من موضوع الإرهاب مسلكا لاختراق أكثر مراكز الفكر الأمريكية رصانة وجدية.

ولا شك أن الكتاب الأخير الصادر بعنوان «عرابيا: المحور الأوروبي العربي» للمؤرخة البريطانية اليهودية من أصل مصري (بات يعور) يشكل نموذجا لهذه الكتابات الجديدة العدوانية، التي لا يصح اعتبارها امتدادا للمنظور الاستشراقي القديم الذي اتسم ـ على هشاشته وعلاته ـ بإحكام منهجي صارم يختلف جوهريا عن الأحكام العاطفية العدائية المتسرعة التي تشكل أساس ومضمون الكتاب المذكور.

والمؤلفة بالنسبة للذين لا يعرفونها اشتهرت بكتبها العديدة المخصصة لوضع الأقليات غير المسلمة في التاريخ الإسلامي، وقد طورت لهذا الغرض أنموذجا منهجيا يستند لمقولة «أهل الذمة»، وتذهب في أعمالها المذكورة إلى أن عبارة «الذمية» Dhimmtude ترتبط عضويا بالتصور الإسلامي للإنسانية القائم على حصر المشروعية العقدية والقيمية بالأمة المسلمة، مما يبرر إقصاء الآخر الذي ليس له خيار سوى القتل أو الاستعباد أو التبعية الذليلة.

وتذهب بات يعور إلى أن هذا النموذج هو الذي طبق على الأقليات الدينية اليهودية والمسيحية في التاريخ الإسلامي، ولكنه لا يزال يشكل الإطار المرجعي لعلاقة المسلمين بالعالم المعاصر.

تخلص بات يعور في كتابها «الإسلام والذمية» (الصادر عام 2002 بعد أحداث 11 سبتمبر) إلى أن الذمية وإن كانت أبطلت مؤسسيا، إثر الضغط الاستعماري الغربي، إلا أنها تحولت إلى حالة فكرية متجذرة في المجال الإسلامي، تشكل في آن واحد تصورا عنصريا عدوانيا للآخر وآلية اضطهاد وإقصاء له.

بيد أن خصوصية الكتاب الأخير «عرابيا eurabia » الذي أشرنا إليه، هي الذهاب في الشطط إلى حد اعتبار الدول الأوروبية الحالية الفضاء الجديد للذمية التي تعني تبعية هذه الدول المطلقة للعالم العربي من حيث التوجهات الاستراتيجية والسياسات العملية. فالمحور العربي ـ الأوروبي يقوم على جملة شروط فرضها العرب (مثل الشروط المفروضة سابقا على أهل الذمة) من قبيل استقلال القرار الأوروبي عن الولايات المتحدة والاعتراف بالدولة الفلسطينية وانسحاب إسرائيل إلى حدود 1948 والسيادة العربية على القدس. فهذه الشروط هي نمط من الجزية لحماية القارة من الإرهاب الذي هو السلاح العربي المدمر، بالإضافة إلى إغداق المال العربي على الاتحاد الأوروبي.

وترى بات يعور أن المحور العربي ـ الأوروبي يقوم على مرتكزات ثلاثة هي:

* بناء شراكة اقتصادية وصناعية بين الجانبين تفضي إلى نقل التقنيات الحديثة للعالم العربي خصوصا التكنولوجيا النووية والعسكرية المتطورة.

* تكثيف الوجود الإسلامي في أوروبا، ومنح الجاليات المهاجرة كل الحقوق السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية.

* فرض البصمة الثقافية والدينية العربية الإسلامية في المجال الأوروبي.

أما الهدف الاستراتيجي البعيد لهذه الشراكة فهو حماية النفوذ الأمريكي في المنطقة وتقويض إسرائيل، بالاستخدام النسقي المنظم للإرهاب أداة ردع وتهديد لمن يعترض على هذا المحور الذمي الجديد.

قد يرى الكثيرون أن هذا الكتاب المتهافت لا يستحق القراءة ولا العرض، لولا أن الكتاب المذكور صدر عن إحدى أكبر دور النشر في العالم، وانتشر على نطاق واسع في الولايات المتحدة، واحتفت به الدوائر القريبة من صنع القرار، خصوصا في أوساط المحافظين الجدد والأصوليين الإنجيليين الذين يتبنون إجمالا التصورات والأفكار الواردة فيه.

ودون الدخول في تعليق مطول على الكتاب نكتفي بإبداء ملاحظتين مقتضبتين:

أولاهما: إن الكتاب يشكل امتدادا لنمط ابتزاز المؤسسة الصهيونية للعقل الأوروبي المتهم دوما بالعداء للسامية والمسؤول عن جريمة المحرقة، في ما أصبح يشكل بالفعل «صناعة» متكاملة (من عنوان كتاب صناعة الهولوكوست للمؤرخ اليهودي الأمريكي نورمان فنكلشتاين).

فالمواقف السياسية الأوروبية إزاء القضايا العربية المختلفة جزئيا عن الرؤية الأمريكية، ينظر إليها من هذا المنظور، في حين يتم استدرار الذاكرة التاريخية البعيدة لكبح مسار الشراكة العربية الأوروبية التي لم تتجاوز لحد الآن خطوة الاجتماعات الدبلوماسية الأولية (توظيف مفهوم التقليد اليهودي المسيحي المشترك لإقصاء الإسلام من السنة الإبراهيمية الجامعة).

ثانيتهما: إن الرد على مثل هذه الكتابات الصدامية الفجة (التي تغذي موضوعيا منابع التطرف والإرهاب) لا يكون بمنطق الثأر العدواني، أو التجاهل الكامل، وإنما بالسعي لكسب معركة الأفكار المحتدمة راهنا على خط العلاقات العربية الغربية، وهي معركة مسرحها الصراع على الإسلام ذاكرة ونصا ومشروعية وأفقا روحانيا، وهي المعركة التي لا بد من كسبها في مواجهة نمطي التطرف الأصولي الإسلامي والأصولي الغربي.