ماذا بعد أن أكل الإسلامويون تفاحة الخطيئة الديمقراطية؟

TT

بينما استمر العراك عدة عقود في مسألة الديمقراطية والإسلام بين التيار التقليدي الذي كان يرى في الديمقراطية خروجاً عن الإسلام باعتبارها ديناً آخر، وبين التيار الحركي البراجماتي المتمثل في جماعات الإسلام السياسي التي مرت قناعتها بالديمقراطية بعدة مراحل من الإقصاء التام إلى مرحلة المطابقة بينها وبين مبدأ الشورى القرآني، لم يحتج الإسلامويون (المؤمنون بإيدلوجية الإسلام السياسي) في البلدان العربية والإسلامية إلا أن تتحول قناعاتهم النظرية إلى واقع تطبيقي عملي ليكتسحوا كل المقاعد في الجولات الانتخابية إن في الأردن أو السودان أو اليمن .. ومن ثم عبر الانتخابات البلدية في السعودية، كان هذا حدثاً مفاجئاً للبعض، لكن الراصدين لهذا التيار وثقله الاجتماعي على الأرض يدركون أن هذه النتيجة تبدو طبيعية جداً ومتسقة مع مسبباتها التي ظلت منذ ظهور حركة الصحوة تضخ باتجاه امتلاك الكثير من القناعات والعقول التي لن تتردد في منحها أصواتها الانتخابية متى ما وجدت الفرصة.

السؤال المهم هنا ما طرحه المحلل السياسي غراهام فوللر : هل كان الإسلاميون سيعتنقون الديمقراطية وحقوق الإنسان لو لم يكونوا أول المستفيدين منها؟ إذن هي البراجماتية المشروعة سياسياً لكن المتناقضة مع المبدأية التي يدعيها قادة هذا التيار في تناول الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي حين يتم تصوير الأمر للمخالفين لهم على أنه ليس إلا مطلق الامتثال للشريعة الإلهية! مما يعني إضفاء سمة القداسة والثبات لما هو متغير وآني ونسبي، فهذا التحول الذي يعيشه إسلاميو المنطقة في التعامل مع الخطيئة الديمقراطية لا يعدو أن يكون إلا اقتناصاً للفرص الجديدة لتحقيق أكبر قدر من المكتسبات السياسية بحريات أوسع وبمباركة الجميع ممن قبلوا باللعبة الديمقراطية، ومع إيماني العميق بأن قطاعات من الإسلاميين المعتدلين يعيشون نقلة نوعية في التعاطي مع واقع ما بعد 11 سبتمبر، حيث بات من السهل الآن التمييز بين الطرف المنحاز من الإسلاميين للعنف تأصيلاً وممارسة وبين التيار المتصالح مع الواقع الجديد وإن كانت ثمة تحفظات مشروعة يبدونها كما يبديها غيرهم يختلفون مع الفهم الأمريكي تحديداً لموضوع الإرهاب وكيفية التعامل معه.

وبعد، نسأل : ماذا على الإسلاميين المعتدلين أن يفعلوه بعد أن قضموا شيئا من تفاحة الديمقراطية؟ في اعتقادي أن المرحلة القادمة تتطلب قرارات شجاعة من القادة مهما كانت كلفتها على الإسلاميين سواء ما يتعلق بتناقص المؤيدين أو الهجمات المتوقعة من أقطاب التيارات المتطرفة، ومن أهم المعضلات الجديدة التي يتوجب على الاسلاميين مواجهتها : ملف الاندماج في النسيج الوطني وإعادة قراءة الأفكار الراديكالية التي ظلوا لفترة طويلة من الزمن يؤمنون بها دون أن يقدموا لها الآن مراجعات نقدية ذات بال، وأهم من ذلك «تبيئة» وتجذير مسائل ذات صلة بالديمقراطية لا يمكن أن تنفصل عنها مثل التعددية وقبول الرأي الآخر وحقوق الإنسان والمساواة.. وكل مفردات المشترك المدني والحضاري.

إن الشرط الأساسي لنجاح أي فعالية ديمقراطية أن تتقبل قانون «النسبية» في تناولها السياسي للواقع المحكوم بجملة من الشروط التاريخية والاجتماعية والاقتصادية المكونة له، وتبقى فضيلة النقاش طبقاً لمارسيل غوشيه في كتابه (الديمقراطية ضد نفسها) المناخ الوحيد لأن تبقى الأداة الديمقراطية حية وفاعلة باعتبار أنها «خيار معقد وعمل جماعي يفترض الخروج بصيغ عامة يقبل فيها الجميع على الرغم من اختلاف مشاربهم ومصالحهم».

لعل المتابع لتاريخ امتصاص الجسد الإسلاموي لخيار الديمقراطية في استراتيجيته الحركية، يلاحظ كيف أنه انتقل من طور اختزال الفكر السياسي في مبدأ الشرعية والطاعة لا باعتبارها خياراً سلمياً، بل من منظور التعبدية الدينية ولو لم تتفق تلك الأنظمة مع رؤيته المثالية لما يجب أن يكون عليه الوضع، ثم انتقاله إلى وضعية المتحفظ على الأنظمة السياسية المعاصرة بسبب ضغوط الصراع المسلح في أواخر السبعينات، إلى التصادم في المواقف بعد ذلك والعمل داخل بنية المجتمع منذ الثمانينات وإلى ما قبل زلزال 11 سبتمبر الذي عمق الحصار على تلك النظريات التي كانت تشتغل خارج العالم، ولكنها بدت أعمق بكثير داخل شرائح متعددة من الشباب المنضوين تحت لواء هذه الجماعات وصولاً إلى الخيار الأخير، وهو الاضطرار إلى «أكل ميتة» الدخول في اللعبة السياسية المعاصرة بأدواتها على خلفية درء المصالح ودفع المفاسد ومزاحمة التيارات الأخرى على الأرض وربما من الصعب جداً فهم هذه التحولات بعيداً عن قراءة دوافعها ومسبباتها التي يمكن أن تعطينا مؤشراً مستقبلياً على مدى إمكانية القبول بأية نتائج قد تأتي بها رياح الديمقراطية التي لا تشتهيها سفن الإسلامويين.

المعضلة الحقيقة أن يظل الموقف الفكري وفقاً لتأصيل المرجعيات الدينية التي تحرك جماعات الإسلام السياسي محصوراً في الانتفاع من الديمقراطية لمكاسب سياسية مع البقاء على الأفكار الثورية القديمة التي أنتجت في مرحلة الأزمة بين الحكومات والجماعات مما يوسع الفجوة بين الممارسة البراجماتية والنظرية الهشة التي يعوزها الكثير من التأصيل وملامسة التفاصيل.. هذا يعني بالضبط أن واقعنا سيظل يرواح مكانه بانتظار مستحيل لا يجيء.

* كاتب في شؤون الجماعات الإسلامية