إذا لم يكن ما تريد...

TT

قد يكون لبنان البلد الوحيد في العالم الذي يعيد فيه التاريخ نفسه من دون كثير عناء : عام 1989، وبعد اتفاق الطائف تحديدا، فقدت الطبقة السياسية المراهنة على اسرائيل مواقعها في السلطة... وكان المخرج «المشرف» لها أول انتخابات نيابية أجريت بعد التوقيع على اتفاق الطائف.

وفي عام 2005 بدأت الطبقة السياسية المراهنة على سورية تخسر مواقعها وتنتظر خروجا آخر من الحكم مع أول انتخابات تجرى بعد الانسحاب الكامل للقوات والمخابرات السورية من لبنان.

ولأن الحدثين، في اطارهما الجغرافي الضيق، لبنانيان بامتياز، ترافقت تبعاتهما المحلية مع مشاعر طائفية للربح والخسارة ـ مشاعر مارونية في أواخر الثمانينات، وشيعية في الوقت الحاضر.

قد تكون العبرة الأبرز لهذين الحدثين أن استقواء اللبنانيين ـ أو بعضهم على الأقل ـ بالخارج عملية ناجحة على المدى القصير ومكلفة على المدى المتوسط والبعيد... مكلفة لأنها لا تأخذ في الحسبان تبدل التحالفات الإقليمية والدولية التي تفرزها «لعبة الأمم» فتدفع الشرائح اللبنانية، قبل غيرها، ضريبة هذه التبدلات.

في لعبة الأمم، لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، بل مصالح قائمة تتبدل مع تبدل الظروف.

وإذا كان الظرف القائم الآن يجمع مطالبة الولايات المتحدة وفرنسا وحتى الأسرة الدولية بأكملها باستعادة لبنان استقلاله وسيادته، فان لبنان، على أهمية موقعه على خريطة الديمقراطية الاميركية للشرق الأوسط الجديد، ليس بيت القصيد بقدر ما هو معاقبة سورية على مواقفها الإقليمية ـ غير المدروسة برؤية دولية ـ حيال العراق مما أتاح استغلال أخطائها المميتة في «إدارة» لبنان مخابراتيا، لا سياسيا، لطرح شعار المرحلة (الديمقراطية)، بديلا لها، خصوصا أن لبنان ناضج ديمقراطيا وان كان تنوعه المذهبي الضمانة الحقيقية لهذه الديمقراطية.

ظاهرا قد يبدو أن القرار1559 أحرج سورية فأخرجها من لبنان ـ واقعا تبدل التحالفات الدولية مع تبدل المصالح الإقليمية دفع الولايات المتحدة إلى نزع الوكالة المعطاة لسورية في لبنان بعد ان انتفت الحاجة اليها، محليا، وأصبح وجودها في لبنان عامل استقواء اقليمي على دول الجوار.

إلا أن أجواء واشنطن بدأت توحي وكأن لبنان أصبح جبهة جانبية في معركتها مع سورية. ولا يبرز ذلك من لهجة الخطاب السياسي للمتحدثين باسم الإدارة الاميركية فحسب، بل مما يحضر «لمعاقبتها» في مشروع «قانون تحرير لبنان وسورية»، الذي صادقت عليه، في مطلع الشهر الحالي، اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط في مجلس النواب الاميركي، ومما يخطط في لقاءات اعترفت الإدارة الاميركية بها بين مسؤولين يمثلون وزارات الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي ومن وصفتهم بـ«نشطاء» في المعارضة السورية في الخارج.

منذ ان «تأخرت» سورية في تطبيق بنود اتفاق الطائف المتعلقة بالانسحاب العسكري من لبنان

والتأخير يجر تأخيرا آخر لغير صالح سورية. وإذا كان يصح الاستنتاج بأن ما يشهده لبنان اليوم من عمليات انسحاب متسارعة للقوات السورية المتبقية في سهل البقاع محاولة للحاق بالحدث قبل وقوع الأسوأ، فقد يكون المطلوب اللحاق به، وبأقصى سرعة ممكنة، هو «السلام الاميركي» في الشرق الأوسط... ليس لأنه الحل الأمثل للنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي بل لأنه المنفذ الوحيد للبدء بتحديد خسائر سورية السياسية والانطلاق منه نحو احتواء المد العدائي المتنامي حيالها في واشنطن.

وقديما قيل: إذا لم يكن ما تريد... فأرد ما يكون.