مصر وطريق الديموقراطية

TT

القرار الذي اتخذه الرئيس مبارك بفتح منصب الرئاسة للمنافسة الانتخابية يعد خطوة في الاتجاه الصحيح نحو الديموقراطية، وتسلتزم تكاتف جهود كل قوى المجتمع المصري الحية لتعميقها، وجعلها خطوة حقيقية بتوظيف الزخم الداخلي والخارجي بكل براعة، للاستفادة من هذه اللحظة التاريخية المهمة. وهناك في المقابل عدد من الاعتبارات التي تفرق بين جدية وعدم جدية هذه الخطوة:

أولا: هناك طبيعة التغيرات التي ستلحق بالدستور وبالعملية السياسية برمتها مثل قواعد الترشيح، ومدى استقلالية اللجنة العليا التي ستشرف على الانتخابات، والمواد الأخرى التي يجب أن يلحقها التعديل الدستوري، والتي تتمثل في مدة الرئاسة وصلاحيات الرئيس وخلافه، وإنشاء قانون جديد للانتخابات يتناسب مع الأوضاع الجديدة، وتنقية الجداول الانتخابية، وفتح باب التسجيل الواسع، وحقوق المصريين في الخارج في المشاركة، وإلغاء قانون الطوارئ الذي يحظر تجمع أكثر من خمسة أفراد، لأن هذا ضد طبيعية العملية الانتخابية وضد قيم أي نظام ديموقراطي، وتحديد طرق تمويل الحملات الانتخابية، والدعاية المتوازنة لكافة المرشحين من خلال وسائل الأعلام المملوكة في معظمها للدولة، وإطلاق حرية تكوين الأحزاب وحرية الصحف بمجرد الاخطار، وحريات الاجتماع والتظاهر والإضراب والاعتصام السلمي، والرقابة الواسعة على الانتخابات محليا ودوليا.

والمهم أن يتم ذلك كله عبر حوار وطني واسع مع الأحزاب وقوى المجتمع المدني والمثقفين والجامعات قبل عرضه على مجلس الشعب، ولو تطلب الأمر تأجيل الانتخابات عدة شهور فلا ضرر من ذلك، فنحن في حالة ركود عميق منذ عقود، والمهم أن يحدث تعديل جوهري في قواعد اللعبة السياسية بكافة أركانها. فلا يمكن الحديث عن منافسة حقيقية في ظل غياب تحرير العملية السياسية كلها من قبضة الدولة وأجهزتها الأمنية. فمجمل الأداء في النظام المصري بشكله الحالي يعمل على تهميش وابعاد القوي الليبرالية وأقطاب المجتمع المدني والشخصيات المستقلة. فعندما يحرم المناخ السياسي القوى الحية فوق الأرض من ممارسة دورها الحقيقي في أجواء من المنافسة الصحية، لا يتبقى إلا القوى الظلامية، التي تعمل تحت الارض وتكون الخيارات محصورة بين الجمود والفساد أو الخراب والفوضي. لقد قزم المناخ السياسي الأحزاب السياسية الشرعية، وجعلها في معظمها أحزاب كاريكاتورية، لا تملك من وسائل المنافسة سوى شتم النظام أو التحالف معه عبر صفقات تحتية.

ثانيا: المراقبة الدولية للانتخابات أحد سمات المنافسة الجادة، والمراقب كما هو معروف، لا يتدخل في العملية الانتخابية، وإنما تقاريره تنصب فقط على مدى سلامتها وحجم الأقبال والظروف التي أحاطت بعملية التصويت. ومراقبة الانتخابات أصبح له مشروعية دولية مستمدة من مشروعية الديموقراطية كأحد حقوق الإنسان المعاصر، وسقطت الحجج التي كانت تربط المراقبة الدولية بانتهاك سيادة الدول، فعملية المراقبة الآن تقوم بها الأمم المتحدة وحكومات ومنظمات المجتمع المدني. وفي الانتخابات الأمريكية الأخيرة راقبها أكثر من 1200 مراقب أوروبي انتشروا بالذات في الولايات المتأرجحة والتي تحسم في العادة المنافسة الرئاسية، ومؤخرا تمت هذه المراقبة بنجاح وشفافية في كل من العراق وفلسطين، بل والجميل أن انتخابات السلطة الفلسطينية راقبها كل العالم تقريبا، الأمم المتحدة، والولايات المتحدة عبر وفد من الكونجرس، والاتحاد الأوروبي، ومنظمات المجتمع المدني الامريكي وعلى رأسها مركز كارتر، ومنظمات المجتمع المدني الاوروبي، بل والحكومة المصرية نفسها أرسلت 18 مراقبا برئاسة السفير حسن عيسى، علاوة على المجتمع المدني المصري ممثلا في مركز ابن خلدون والعديد من الحكومات ومنظمات المجتمع المدني من كل مكان، وجاءت التقارير تشيد بالنزاهة والسلامة وأعطت مشروعية كبيرة خارجيا وداخليا لمحمود عباس.

إن شرعية الأنظمة تستمدها في الدولة الحديثة من الانتخابات النزيهة وسط مناخ سياسي سليم، فهذه هي الشرعية الشعبية، والنظام المصري يحتاج الى مثل هذه الشرعية التي لم يتمتع بها منذ ثورة يونيو 52، حيث كان عبد الناصر يتحدث عن شرعية يوليو الثورية، وجاء السادات بعده وتحدث عن شرعية نصر أكتوبر، أما مبارك فقال بشرعية الإنجازات، وهذه كلها لا تمثل شرعية شعبية لدولة تتطلع نحو ديموقراطية، فيما هناك، ووفقا لأحكام القضاء المصري 81 حكما قضائيا ضد الحكومة بتزوير الانتخابات، مع الضعف الشديد للاقبال على الانتخابات، فوفقا لأرقام موثوقة يقل عدد الذين يقترعون إلى أقل من مليون شخص، في دولة يتعدى سكانها السبعين مليونا، كل هذا يجعل العملية السياسية كلها محل تساؤل واستفهام كبيرين.

ثالثا: القلق وعدم التأكد من قواعد المنافسة الحقيقية هو قلق المنخرطين فيها، وعدم تأكد أي منهم بالفوز الحتمي، فالمرشح الذي لا يقلق على فوزه، يعني اما أنه لا يوجد له منافسون حقيقيون، أو أنه متأكد من النجاح حتى ولو بالتزوير، وكلاهما يدل على عملية سياسية غير مطابقة للمواصفات الصحيحة.

من ملامح القلق أن يقدم المرشح برنامجا انتخابيا شاملا ويطوف البلاد للدعاية لبرنامجه، وأن يكثف زياراته للمناطق التي يشعر بضعف شعبيته فيها، وقد زار جورج بوش فلوريدا 36 مرة خلال فترة رئاسته الأولى، حتى يضمن الفوز بهذه الولاية بعد المشاكل التي حدثت أمام منافسه آل جور، ولم يعتمد على أن أخاه حاكم لذات الولاية. وتعديل مادة من الدستور خطوة ضرورية، ولكنها غير كافية، وسلامة العملية الانتخابية هو المعيار الذي يجعل المنافسة حقيقية، ويجعل كل شخص يحسب ألف حساب لمنافسيه.

في العالم العربي سوابق في مسألة فتح باب المنافسة، ولكن بطريقة شكلية نذكر على سبيل المثال النموذج التونسي في الانتخابات الأخيرة، وقد تم بناء على تعديل دستوري أيضا لفتح الطريق للانتخاب الحر المباشر، ونجح الرئيس التونسي بنسبة 96% فقط بعد أن كان ينجح بنسبة 99%. هناك أيضا النموذج العرفاتي نسبة إلى ياسر عرفات، فقد كان المنافس الرئيسي له على الانتخابات الرئاسية الحاجة سنية خليل، ولا تسألني من هي سنية خليل؟؟ وهكذا تتحول المنافسة السياسية إلى نكتة يتندر عليها الناس في مجالسهم الخاصة، مثلها مثل نكتة الحريات الموجودة في كثير من الدساتير العربية، ولم يتم تطبيقها في الواقع.

الكرة الآن في ملعب القوي الوطنية المصرية، فأما أن تتقبل المزيد من الإجراءات الديكورية، وإما التصميم على تحريك العملية السياسية نحو الحريات والديموقراطية الحقيقية عبر النضال المتواصل والتجاوب بفاعلية وسرعة مع التغييرات التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط.