نصيحة لبوش: تحسين الصورة بالسياسة لا بالدعاية

TT

تبدو الولايات المتحدة مهتمة بتحسين صورتها في العالم العربي والإسلامي، وقد لجأت في ذلك إلى محطة إذاعة تذيع من الأنباء على التوالي أغاني عربية وغربية لعلها تستهوي الشباب فتجذبهم إليها، ومحطة تلفزيون تقلد محطات الأخبار المعروفة ولكنها لم تجد مادة ولا مذيعين يوفرون لها ولدعاياتها مكاناً بين القنوات التي يهتم بها المشاهد في العالم العربي وقد يتأثر بها.

ثم إنها لجأت إلى تعيين خبيرة إعلامية قريبة من الرئيس بوش وفكره مسؤولة عن مهمة «التلميع والتزويق» تساعدها خبيرة من أصل مصري كانت أيضاً تعمل في البيت الأبيض، ويشهد الجميع بأن كارين هيوز ومساعدتها لديهما قدرات هي محل تقدير ولكنهما كسباحتين ماهرتين تحاولان السباحة في هدير «التسونامي».

وبالإضافة إلى تلك المحاولات فقد كشفت الأنباء عن أن وزارة الخارجية الأميركية تقوم بإنتاج وإعداد أفلام دعائية قصيرة في صورة أخبار لا تنسب إليها وتذاع في محطات إذاعة أو تلفزيون مختلفة دون الإفصاح عن هويتها ومصدرها.

وأعتقد جازماً أن تلك الجهود والمحاولات لن تحقق الهدف منها، لأن المطلوب ليس حملات دعاية، وترويج أنباء تعبر تعبيراً أفلاطونياً عن الحب والمودة، أو الدعوة لأفكار خيرة غير مقنعة كالادعاء مثلا بأن الولايات المتحدة حاربت من أجل المسلمين والعرب في كوسوفو وأفغانستان والبوسنة والعراق، أو التفاخر بتقديم المساعدات لضحايا التسونامي من المسلمين.

إن المشكلة لا تكمن في صورة يحاول البعض كما يتصور الأميركيون تشويهها، ولا تكمن في المناداة بمبادئ سامية لا يختلف عليها اثنان، ولكنها ترجع إلى مواقف وتصرفات أميركية يجب على الولايات المتحدة أن تراجعها وتتراجع عنها وتعدلها إذا ما كانت راغبة حقاً في أن تكسب صداقة الشعوب، بدلا من أن تخطو خطوات لا تغني ولا تسمن من جوعها وتعطشها إلى أن تجد رداً على سؤال: لماذا يكرهوننا ؟ الذي طالما تردد في واشنطن فجاءت الردود الخاطئة عليه في تصريحات عجيبة سمعناها من مسؤولين كبار قالوا: «إنهم يكرهوننا لأننا ديمقراطيون، ولأننا متقدمون، ولأننا نحب الحرية...إلخ».

وقبل أن أسرد بعض تلك المواقف والأسباب، أود أن أتوقف عند تعليقين من مصادر أميركية لعل خبراء الدعاية الأميركية يتوقفون أيضاً عندهما فتكون الشهادة من أهلها عوناً لهم لبداية فهم جزء من المشكلة.

أما التعليق الأول فجاء على لسان الصحفي الأميركي المخضرم «ارنو دي بورجراف» الذي أشار إلى الصورة السلبية التي تعكسها برامج وأفلام سينمائية وتلفزيونية أميركية عن صور من الانحلال الأخلاقي والجنسي والمالي ومن الفساد تصل إلى المشاهد في جميع أنحاء العالم بواسطة القنوات الفضائية الأميركية ذاتها فتترك لديه صورة ـ ليست بالضرورة دقيقة ـ ولكنها بالقطع سلبية عن الولايات المتحدة وتنفي ـ في عقل ذلك المشاهد ـ كل ما يتردد من عوامل الجذب في المجتمع الأميركي التي كانت تجعله في وقت من الأوقات نموذجاً ترنو إليه أبصار الشباب سريعي الانبهار.

أما التعليق الثاني فجاء في جريدة «الواشنطن بوست» بمناسبة التقرير السنوي الذي تصدره وزارة الخارجية الأميركية وتكيل فيه الاتهامات والانتقادات للدول لأنها تخرق حقوق الإنسان، والذي ورد فيه أن واشنطن سوف تجعل من موضوعات حقوق الإنسان حجر الزاوية في تقييم علاقاتها بالدول الأخرى. وقد لاحظت الجريدة الأميركية أن التقرير لم يشر إلى الخروقات الأميركية لحقوق الإنسان في السجون التابعة لها في العراق وأفغانستان. كما أشارت الجريدة إلى المعايير المزدوجة التي تتبعها الحكومة الأميركية عندما تجد أن مصالحها في مجال من المجالات مع دولة من الدول تجيز لها التغاضي عما يتعلق بحقوق الإنسان من تصرفات تلك الدولة.

وقد يكون في ذلك ما يكفي لإيضاح عمق المشكلة التي تواجهها الولايات المتحدة في محاولات تحسين صورتها لكسب الأصدقاء، وأن العلاج يقع عبء كبير منه عليها، ولكن هذا لا يغني عن إيراد بعض الأمثلة الأخرى في عجالة لأنه لا يخفى على اللبيب:

1 ـ يزداد كل يوم الاقتناع بفشل السياسة الأميركية في العراق، حيث عجزت عن تحقيق ما وعدت به من أمن واستقرار وديمقراطية بعد غزوها الذي استند إلى أسباب ثبت زيفها والذي افتقر إلى غطاء من الشرعية الدولية. وقد جاءت الانتخابات التشريعية لتحمل في طياتها أخطار مزيد من الانقسام والاضطراب، بعد أن عجزت عن الإتيان بحكومة تستطيع أن تدعي استنادها إلى نوع من الشرعية.

2 ـ ومع ذلك يبدو أن الولايات المتحدة لا تستبعد تكرار نفس التجربة العراقية في دول أخرى على الرغم من نتائجها السلبية سواء داخل العراق أو في علاقات واشنطن مع حلفائها ومع من تبحث لأسباب متنوعة عن صداقتهم، وعلى الرغم من أن مغامرتها أوضحت خطأ الحسابات حول حدود القدرات العسكرية والأعداد المطلوبة لتنفيذ المهام.

وقد جاء استقبال المعارضين السوريين في واشنطن ـ في جو دعائي مخالف لقواعد القانون الدولي والعلاقات بين الدول ـ ليعيد إلى الذاكرة انسياق مخططي السياسة الأميركية وراء أمثال جلبي العراقي وانجرارهم نتيجة لذلك إلى حرب وصفها سكرتير عام الأمم المتحدة بأنها غير مشروعة. ولا أعتقد أن استغلال الوضع في لبنان والأخطاء التي ارتكبتها سوريا هناك ـ وتحدث عنها الرئيس الأسد ـ يمكن أن يغير من هذه الحقائق، بل إنه قد يصل بالأمور إلى وضع بالغ التعقيد يصعب الخروج منه بسلام.

3 ـ نشرت «الفاينشال تايمز» البريطانية خبراً مفاده أن لجنة في الولايات المتحدة تابعة للمخابرات أعدت قائمة سرية تضم 25 دولة وصفت بأنها تفتقر إلى الاستقرار مما قد يستدعي تدخلاً عسكرياً أميركياً، وانشئ مكتب خاص لتنسيق التخطيط لعمليات «بناء الدول» ومراجعة القائمة المشار إليها كل 6 أشهر. ومن المنطقي لدينا أن يفهم الحديث عن «التدخل العسكري لبناء الدول» على أن معناه تغيير الأنظمة، وهو ما حققته الولايات المتحدة في العراق بالأسلوب والنتيجة التي نعرفها، ويبدو أنها تتجه إليه في دول أخرى في المنطقة وفي غيرها.

وقد علقت الجريدة البريطانية على الخبر بأنه دليل على «فشل إدارة بوش في جهود بناء عراق ما بعد الحرب».

وارتباطاً بما سبق فإن وزيرة خارجية الولايات المتحدة كونداليزا رايس ذكرت في حديثها إلى جريدة «الواشنطن بوست» وفي مقدمة التقرير المشار إليه عن حقوق الإنسان أن نشر الحرية هو حجر الزاوية في السياسة الأميركية، كما ذكرت أن الدول يجب أن تتعلم كيف تتعامل مع شعوبها وأن تختار بين الحرية والسيطرة. وهو كلام يفهم أيضاً على أنه تهديد بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول وتهديد أنظمتها إذا لم تكن تتماشى مع فلسفة السياسة الأميركية وإذا لم يكن مسموحاً لها ـ مثل إسرائيل ـ بالتدلل.

4 ـ وإذا أردنا أن نضيف أمثلة أخرى، فهناك الكثير، من ازدواج المعايير في الموقف من الدول التي تمتلك أو تنفي امتلاك أسلحة نووية، إلى الانحياز السافر لإسرائيل الذي يتناسى مبادئ حقوق الإنسان، وحق الشعوب في الحرية، وأسس الديمقراطية. وغير ذلك من المثل العليا التي تستخدم أحياناً ـ عن حق أو باطل ـ لجلد البعض أو تهديدهم، ويتم التغاضي عنها بالنسبة للبعض الآخر وفقاً لأهواء أو أغراض بها شبهة العنصرية والتعصب.

ولعل موقف الولايات المتحدة المذبذب من موضوع المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة تصوير واقعي لما نقول. فقد انتقدت وزيرة الخارجية الأميركية في البداية خرق إسرائيل لالتزاماتها بتجميد الاستعمار الاستيطاني بقرار بناء حوالي ثلاثة آلاف وحدة جديدة في مستعمرة معالوت أدوميم، ثم عادت فتراجعت عن انتقادها وقالت إنها «لا تعرف معنى التجميد على وجه الدقة» وحاولت أن تلف وتدور حول ضمانات الرئيس بوش لشارون.

فإذا أضفنا ما يتعرض له «أصدقاء» الولايات المتحدة من جانبها من هجوم فيه كثير من الظلم، وتدخلها في شؤونهم الداخلية بتمويل وتشجيع نشاطات معارضة في الوقت الذي يقوم فيه هؤلاء الأصدقاء ـ استجابة لرغبات شعوبهم ـ بحركات إصلاح تدعي الولايات المتحدة انه متبناها، يظل هذا كله جزءاً من كثير يوضح أن المشكلة التي تواجهها الولايات المتحدة في العالم العربي والإسلامي لا تعالج بعمليات علاقات عامة، وإنما بتغيير حقيقي في السياسات والمواقف، بحيث تتفق فعلاً وقولاً مع مبادئ القانون الدولي ومقتضيات الصداقة المتبادلة وتضمن المصالح المشتركة، وتتجاوز الأزمات والتوترات وما يترتب عليها من مآس تصيب الجميع، وليمكن بناء العلاقات على أسس جديدة يحكمها التفاهم بدلاً من التصادم، والتعاون بدلاً من التطاحن، والتحاور بدلاً من التآمر، والمنافع بدلاً من المدافع.

ولا أعتقد أن هذا صعب إذ صدقت النوايا وخلصت الرغبة في نشر اعلام الحرية والديمقراطية، بدلاً من اعلام الحملات التجميلية التي لا تخدع ولا تنفع.

* وزير خارجية مصر السابق