درس أكاييف: اختر واحدا من اثنين .. ديكتاتورية قاسية أم ناعمة

TT

حتى قبل شهر واحد، لم يكن هناك أحد يستطيع تخيل عسكر أكاييف مؤسس دولة كرغيزستان الذي له فترتا حكم انتخابيتان، تتم الإطاحة به من الحكم عبر ثورة شعبية.

فمن بين خمس جمهوريات آسيوية، ظهرت على حساب الحطام الذي خلفه انهيار الاتحاد السوفياتي كانت كرغيزستان هي أفقرها في الأقل قمعية. وكان يسود اقتناع بين الخبراء بأنه إذا كانت هناك دولة ستواجه ثورة فإنه نظام إسلام كريموف رئيس أوزبكستان، إذ ظل يواجه تمردا ضخما في وادي فرخانا لعدة سنوات. المرشح الثاني لمواجهة ثورة شعبية هو سفر مراد نيازوف رئيس تركمانستان الذي يعتبر نظامه الأكثر قمعية في المنطقة.

ومع ذلك، فإن أكاييف هو الذي سقط أولا. لماذا؟

أنا علمت أولا بوجود أكاييف في فترة الثمانينات حينما كنت أقوم بالبحث لكتابي عن الشعوب المسلمة في الاتحاد السوفيتي.

وآنذاك كان أكاييف معروفا بأنه مقاتل يريد تحرير شعبه من السلطة السوفياتية وإدخاله إلى العالم الحديث. ومثل واحدا من وجهي العملة التي كان وجهها الآخر جنكيز ايتماتوف الكاتب الكرغيزي الأكبر. مع حلول منتصف الثمانينات، توصل أكاييف إلى استنتاج مفاده أنه لن يتمكن أي قدر من الأمنيات الطيبة والإصلاح من إنقاذ الشيوعية من تناقضاتها. وإذا كان ايتماتوف قد استمر في التعلق بفكرة «الاشتراكية بوجه إنساني»، فهو ساند إصلاحات ميخائيل غورباتشوف التجميلية.

وأكد انهيار الاتحاد السوفياتي للكثير من الكرغيزيين أن أكاييف كان على حق، وأن إيتماتوف كان مخطئا. وفي فترة التسعينات وحينما حصلت كرغيزستان على استقلالها كان أكاييف الزعيم المتوقع لها. في عام 1995 تم انتخابه لفترة رئاسية ثانية ثم جددت مرة أخرى عام 2000. وفي السنة الماضية، أعلن أنه سيتقاعد عام 2005 مع انتهاء فترة رئاسته الثالثة كرئيس، لكن الثورة حرمته من فرصة المغادرة بطريقة أنيقة من المشهد السياسي.

إذن لم عانى أكاييف من مصير كهذا؟

الأول، وقد يكون السبب الأهم، أنه طور نظاما مقسوما بين إغراءات الاستبداد وطموحات الليبرالية. كانت جمهوريات آسيا الوسطى وخصوصا تركمانستان وأوزبكستان من دول الاتحاد السوفياتي قد حافظتا على هيكلية الاتحاد السوفياتي تحت شعار مختلف. لكن كرغيزستان طورت نظاما متعدد الأحزاب وفيها تستطيع تنظيمات المعارضة أن تعمل بشكل طبيعي. أما في تركمانستان وأوزبكستان فإلى درجة أقل. فالنظامان الأخيران كانا مستندين إلى عبادة الزعيم. لكن أكاييف لم يصل يوما إلى أن يجعل من نفسه نصف إله يكون أول واجب على رعيته أن يقدسوه.

يشبه النظام الذي أسسه أكاييف تلك الديكتاتوريات في أميركا اللاتينية. ويسمى هذا النوع من الديكتاتورية «الديكتابلاندا» (نظام استبدادي يضمن احترام الحقوق المدنية للمواطنين). وفي هذا النظام يعرف المواطن العادي أين يقف، فهو يعرف أنه إذا قال شيئا ما لا يحبه الحكام فيمكن أن يُكسَر فمه. ففي نظام «الديكتابلاندا» يكون المواطن غير متأكد أين عليه أن يغلق فمه وأين عليه أن يفتحه.

الأنظمة الديكتاتورية التي توفر الحريات المدنية دائما ما تطاح بثورات تنتج فيما بعد مآسي اكبر. كان نظام لويس الرابع عشر في القرن الثامن عشر نظاما من هذا النوع وأطيح بسهولة نسبية واشتعلت اثر إطاحة نظامه ما يسمى الثورة الكبرى التي قادت الى أسوأ المذابح وأكثر الحروب دموية في التاريخ الفرنسي. نظام الشاه، وهو من نفس الشاكلة، أطيح بدون قتال خلال 4 أشهر وترتبت على إطاحته النتائج التي نعرفها جيدا. تحول الاتحاد السوفياتي السابق خلال حقبة غورباتشوف الى نوع النظم الديكتاتورية التي توفر الحريات المدنية، لكنه دمر تماما من خلال سلسلة من الثورات الصغيرة.

إلا ان الأنظمة الديكتاتورية التي تصادر الحريات لا يمكن إطاحتها بثورة. فقد تغلب كل من نابليون وستالين وهتلر وصدام حسين على التحديات الداخلية لأنهم كانوا على استعداد لقتل الناس بمستوى لا تجرؤ على الإقدام عليه الأنظمة الديكتاتورية التي تكفل بعض الحريات. كما ان فكرة الثورة الداخلية ضد عيدي أمين او الخمير الحمر فكرة أقرب الى الهزل منها الى الممارسة السياسية الجادة.

مثل هذه الأنظمة يمكن تدميرها فقط بواسطة الجيوش الأجنبية في الحروب. فنابليون القي القبض عليها وأرسل الى المنفى عندما جاء القفقاز للنوم في قصر الإليزيه. اما هتلر، فقد أقدم على الانتحار في مخبئه قبل ساعات من وصول كوماندوز اميركيين لإلقاء القبض عليه، فيما توفي كل من ستالين وآية الله الخميني وفاة طبيعية. اما عيدي امين، فقد اضطر للفرار عندما وصل الجيش التنزاني الى قصره في كمبالا. فر ايضا الخمير الحمر الى تايلند عندما كان الجيش الفيتنامي في طريقه الى بنوم بنه، فيما سارع صدام حسين لايجاد حفرة للاختباء عندما ظهرت القوات الاميركية في ساحة الفردوس ببغداد.

السبب الثاني وراء الزوال السريع لأكاييف يتمثل في الفساد المستشري، وهي ظاهرة ملازمة لكل أنواع الديكتاتوريات. الفرق هو ان لا أحد يجرؤ تحت ظل الديكتاتوريات التي تصادر جميع الحريات على طرح القضية، فيما مستوى الفساد في الديكتاتوريات التي توفر بعض الحريات المدنية يكون مبالغا لدعم المناشدات بإسقاط النظام الحاكم. من المؤكد ان نظام أكاييف يعتبر الأقل فسادا ضمن جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق في آسيا. رغم ذلك، فإن ذهاب غالبية العقود الكبيرة الى شخصيات في النظام او أقربائهم أوجد انطباعا بأن البلاد كانت تحت قبضة مافيا السوق السياسية.

الدكتاتوريات الناعمة والمتشددة على حد سواء تستخدم الأعمال التجارية كوسيلة لبناء التأييد الذي يأتي عادة عبر الانتخابات الشعبية. ندرك الآن ان صدام حسين كان مركز شبكة من المصالح التجارية. وفي باكستان كان من اول برامج المستبد الراحل ضياء الحق إقامة امبراطورية أعمال تجارية، ليس لتحقيق الربح الشخصي وإنما كوسيلة لتأمين نظامه الحاكم. وفي السودان، خصص حسن الترابي المزيد من الاهتمام لنسج شبكة من المصالح التجارية اكثر من اهتمامه بإيجاد منظمة سياسية. عند زيارتي لإندونيسيا عام 1998 علمت ان كل سيارات الأجرة والفنادق التي اقمت بها والمباني التي تضم المكاتب ومراكز التسوق التي زرتها كانت مملوكة للرئيس سوهارتو وأسرته.

غالبية المناقشات التي تدور في الدول الاسلامية تتضمن قضية فصل الدين عن السياسة، لكنها في واقع الأمر هي عملية فصل السياسة عن التجارة.

شأنه شأن غيره ممن يترأسون انظمة ديكتاتورية، لم يتمكن أكاييف من فصل الدين عن السياسة، بل انه تسبب في انتشار شعور بالاستياء، ليس فقط في أوساط رجال الأعمال الذين حرموا من فرصة السعي للحصول على نصيب من الكعكة، وإنما ايضا وسط المواطنين العاديين الذين كانوا يعتقدون انهم يتعرضون للنهب بصورة يومية.

لمقابلة هذا الشعور وسط سكان البلاد، حاول أكاييف مكررا الظهور بمظهر الرجل المتدين. وعلى الرغم من توجهه العلماني على مدى سنوات طويلة، فقد بدأ في إضفاء كليشيهات دينية على أحاديثه وشجع على تشييد مساجد جديدة وقام بزيارة سريعة لمكة. آخر مرة رأيته فيها في دافوس بسويسرا كان يحمل مسبحة وكان حريصا فيما يبدو على نمو بعض الشعر على وجهه. كل ذلك كان من المفترض ان يلفت انتباهي الى ان أكاييف، الرجل الذي اعجبت به وقاتلت لإطلاق سراحه من السجن، كان يسير في طريق خاطئ.