فرنسا والاتحاد الأوروبي: على أبواب أزمة كبرى

TT

أورث شارل ديغول فرنسا فكرتين كبيرتين مع القنبلة النووية. وكل هذا الإرث وفر لفرنسا القدرة على البقاء بعده. ما زالت القنبلة النووية قائمة وربما ستظل موجودة. لكن قد تكون الفكرتان أقل قوة على البقاء. فكلتاهما تواجهان تحديا هذا الربيع. الفكرة رقم 1 كانت من أجل تكوين نخبة سياسية ذات تعليم متميز جدا لإحياء الأمة المهزومة واليائسة التي برزت بعد الحرب العالمية الثانية. ووفق هذه الفكرة سيتم اختيار حصيلة المثقفين من خلال اختبارات صعبة، وهؤلاء سيتم تعليمهم في مدارس وطنية خاصة ثم يتم تعيينهم لاحقا في أهم الوظائف الحكومية استنادا إلى الدرجات التي يحصلون عليها في دراساتهم.

هذا النظام الذي يستند إلى تحصيل الفرد وجهوده الخاصة أنتجت جيلين من الإداريين الدؤوبين الذين تحركوا بشكل تدريجي صوب قمة المؤسسات السياسية والتجارية الفرنسية. يعتمد ردك على «الفرنسي» على كيفية رد فعلك تجاه أكثر الأطفال ذكاء داخل صف مدرسي والذي لا يستطيع مقاومة فكرة أن يذكّرك من وقت إلى آخر إلى هذه الحقيقة. قد لا تجد هذا الأمر عنصرا باعثا على النشاط مثلما أجده. لكن النخبة الفرنسية ـ والنظام الذي تفرزه ـ هو تحت المحك هذا الربيع في قاعة المحكمة بباريس حيث توجَّه الاتهامات لـ47 ناشطا حزبيا ومديرا لشركات تجارية بقيامهم بتزوير عقود حكومية لتزويد الأحزاب الفرنسية الرئيسية بتمويل سري لحملاتها الانتخابية. وإذا تواطأ هؤلاء الأفراد بأنشطة فساد ولفترة طويلة كي يوفروا مكافآت مالية وتجارية سرية للديغوليين والاشتراكيين والشيوعيين وغيرهم فإن احتمال ألا يكون الزعماء السياسيون الكبار أنفسهم متورطين في هذه الأنشطة سيبلغ 0%.

ويمنع الدستور الفرنسي من التحقيق أو محاكمة الرئيس جاك شيراك في حالات كهذه. لكن المحاكمات التي يتوقَّع أن تستمر أربعة أشهر تلقي بظلالها على قصر الإليزيه لتقلص كثيرا من السلطة المعنوية التي تتمتع بها حكومة شيراك.

أثارت استطلاعات الرأي الأخيرة دهشة الزعماء الفرنسيين والتي أظهرت وجود أغلبية تسعى إلى التصويت ضد مسودة الدستور الأوروبي في 29 مايو حينما يجري استفتاء حوله. وبالتأكيد سيؤدي رفض الجمهور لهذه الاتفاقية إلى قتلها وفتح الطريق أمام أزمة وجودية داخل الخمسة وعشرين بلدا المنتمية إلى الاتحاد الأوروبي.

بدأت محاكمة النخبة الفرنسية تتحول الى اضطراب في مجال السياسات، يتجاوز حدود فرنسا نفسها. وفي ظل تزايد التحديات الداخلية التي تواجهه، بدأ الرئيس شيراك يبحث عن ملاذ وحماية في القرارات واللقاءات ذات الصلة بالسياسة الخارجية. ولطمأنة الناخبين على عدم تعرض حقوق فرنسا لأي خطر او تهديد بفعل الدستور الجديد، انشغل شيراك بتحدي إجراءات وصلاحيات الراهنة الذراع التنفيذية للاتحاد في بروكسل.

يصور المسؤولون عن توجهات الرأي العام استطلاعات الرأي كونها وسائل رمزية للناخبين للتعبير عن خيبة أملهم تجاه حكومة شيراك وليس تجاه اوروبا. يجري التعامل مع الاستطلاعات كونها وسيلة إنذار مبكر، اذ من المتوقع ان يتجهوا الى تعبئة النخبة في حملة قوية لشرح الوضع في مجمله على نحو يعزز موقفهم. مهما يكن الأمر، فإن الدستور المعني جرت صياغته تحت قيادة الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان. انه يتوقع ان ينسى الفرنسيون خلافاتهم الداخلية بمجرد دخولهم الى مركز الاقتراع ويضعوا جانبا مخاوفهم تجاه فقدان النفوذ في الاتحاد الذي بدأ بستة اعضاء خلال فترة رئاسة ديغول ووصلت عضويته الى 25 دولة بنهاية عام 2004 .

قال فاليري جيسكار ديستان خلال اجتماع لمجلس العلاقات الخارجية في نيويورك يوم 7 مارس (آذار): «يعتقد الشعب الفرنسي مسبقا ان توسيع الاتحاد كان كبير الحجم وجاء سريعا. ربما كانوا على حق في اعتقادهم هذا. وبمجرد ان يدركوا انه لا يوجد في الدستور ما ينص على المساح بتوسيع الاتحاد اكثر ليضم تركيا، فإنهم سيصوتون بنعم».

ربما يكون الأمر كذلك، إلا ان النخبة الفرنسية تعاني اليوم من انقسام عميق على مستقبل الاتحاد الاوروبي الذي ساعد في تأسيسه. يؤيد شيراك قبول عضوية تركيا، فيما يعارضها جيسكار. اما الاشتراكي لوران فابيوس، فيعتقد ان بوسعه استعادة السيطرة على حزبه من خلال هزيمة الدستور، الذي يتوقع بطبيعة الحال تأييده له.

* مجموعة كتاب «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الاوسط»