تقرير فولكر.. ترك أنان ولم يتركه!

TT

مَن يؤمن بدور الأمم المتحدة تنفس الصعداء عندما تمت تبرئة الأمين العام للمنظمة الدولية، كوفي أنان، من أي سوء تصرّف ناتج عن علاقة نجله، كوجو، بشركة كوتكنا السويسرية التي كانت مكلّفة بمراقبة توريد المواد الانسانية الى العراق بموجب برنامج النفط مقابل الغذاء. فلو خلص تحقيق اللجنة المستقلة التي يترأسها بول فولكر، وهو رئيس سابق للبنك المركزي الأميركي، الى استنتاج بتورط الأمين العام في قضية الفساد، لكانت آثاره وخيمة على الأمم المتحدة. ومهما يكن الأمر، فان قلة من الناس في الأمم المتحدة كانوا يتوقّعون أن يكون الأمين العام، الحائز جائزة نوبل للسلام في العام 2001، متورطاً بالفعل في قضية الفساد المالي أو أنه استفاد منها بطريقة أو بأخرى. لكن تحقيق فولكر والمعلومات التي تسرّبت قبل اصدار التقرير، بالاضافة الى الفضائح الجديدة التي طفت على السطح خلال عملية التحقيق في برنامج النفط مقابل الغذاء، والتي لم تكن مرتبطة بالبرنامج أصلاً، ألحقت ضرراً بالغاً بادارة كوفي أنان للأمم المتحدة.

هناك محطات كثيرة يقتضي الوقوف عندها ألقت بظلالها على المنظمة الدولية في العامين الماضيين، منها التحقيقات التي تعرّض لها عدد من كبار مسؤولي الأمم المتحدة المتهمين بسوء الادارة والتحرش الجنسي، ومنها أيضاً الجرائم الجنسية واسعة النطاق التي ارتكبها بعض أفراد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مواقع مختلفة من العالم. يُضاف الى ذلك التفجير الذي استهدف مقر الأمم المتحدة في بغداد، في أغسطس 2003، والذي ذهب ضحيته عدد من موظفي الأمم المتحدة وعلى رأسهم الممثل الخاص للأمين العام، سيرجيو فييرا دي ميللو، وهو التفجير الذي ترك آثاراً عميقة في جسد المنظمة. أما على الصعيد السياسي، فتبقى الابادة الجماعية التي وقعت في رواندا، في العام 1994، وكان أنان حينذاك مسؤولاً عن عمليات حفظ السلام، والتي أوصلت سمعة المنظمة الدولية الى الحضيض. ومما زاد الطين بلة الحرب غير الشرعية في العراق، عام 2003 ، والتي أدت الى تقويض مصداقية الأمم المتحدة.

ومن المدهش، عند استعراض الاخفاقات هذه، ليس وقوعها بحد ذاته، اذ لا يمكن لأية مؤسسة أن تكون في منأىً عن الأزمات والأخطاء وبعض العناصر الفاسدة في صفوف مسؤوليها، كما لا يمكنها أن تمنع وقوع هجمات ارهابية. ولكن المعوّل عليه هو كيفية تعامل المسؤولين مع مثل هذه المشكلات. وفي هذا الصدد، فان أداء كوفي أنان كان متبايناً. فعلى الصعيد الداخلي، لم يرضَ موظفو الأمم المتحدة عن سكوت الأمين العام في تحمّل مسؤولية نتائج تفجير مقر الأمم المتحدة في بغداد، لسنة كاملة، وسكوته سنتين قبل أن يصرح بوضوح أن الحرب على العراق كانت «غير قانونية».

والسؤال الذي يطرح نفسه، في هذه المرحلة، هو ما اذا كانت النتائج التي توصل اليها فولكر في تحقيقه تمكنت من اعادة الاعتبار للأمين العام الذي تضررت سمعته نتيجة الانطباع الذي تولّد لدى البعض عن وجود تضارب مصالح في دوره كأمين عام للأمم المتحدة، وما اذا كان أنان لا يزال يتمتع بالصدقية المطلوبة والسلطة المعنوية لتنفيذ برنامج الاصلاحات في بنية الأمم المتحدة. وعلى هذا الصعيد، أستبعد أن يخدم تقرير فولكر الأمين العام. فمن جهة، يبرئ التقرير أنان من أي عمل جنائي، الا أنه يتهمه، من جهة أخرى، لأنه فشل في كشف حالة تضارب مصالح محتملة ولضعف ادارته واخفاقه في اتخاذ القرارات المناسبة. هذا هو، باختصار، ما تضمنه التقرير الثاني الذي وضعه فولكر، بعد أن كلّفه أنان باجراء التحقيق، في العام الماضي. ولم تبدّد نتائج التقرير شكوك البعض في التفاصيل التي كان أنان يعلم بها حول سعي كوتكنا للحصول على عقد من الأمم المتحدة، وعن مدى علمه بأن نجله كوجو كان يعمل لحساب الشركة في الفترة نفسها. وأشار التقرير الى المفارقة من أن الأمين العام لم يتذكر لأول وهلة لقائه بالمسؤولين عن شركة كوتكنا لكنه عاد وتذكر اللقاء بتفاصيله. كما أن التقرير يكشف معلومات هامة عن قرار مدير مكتب أنان السابق اتلاف مستندات مرتبطة بالفترة التي كانت تحاول فيها كوتكنا الحصول على العقد، وذلك في اليوم التالي بعد اصدار مجلس الأمن قراراً يرحب بتشكيل لجنة التحقيق. ومن الأمور المثيرة للدهشة ردود فعل فولكر نفسه على أسئلة الصحافيين، يوم الثلاثاء الماضي في مؤتمر صحافي عقده في فندق مجاور للأمم المتحدة، للتأكيد على استقلالية لجنة التحقيق، إذ وصل الأمر بفولكر الى حد تولي دور محامي الدفاع عن كوفي أنان ودعم برنامج الاصلاحات التي اقترح الأمين العام ادخالها على المنظمة.

حتى الآن، لم يتوصل التحقيق الذي بلغت تكاليفه 30 مليون دولار، والذي اتخذ انان قرار تمويله من أموال عراقية متبقية في حساب البرنامج الانساني، الى اثبات الادعاءات التي قد تجعل منه فضيحة القرن، كما كان يسعى اليه المشككون بالأمم المتحدة. فلم يجد فولكر وفريقه الذي يضم 70 شخصاً أدلة تشير الى أن الأمين العام كان متورطاً في فساد مالي، وهذه أخبار سارة بالنسبة للأمم المتحدة. ويرى بعض الدبلوماسيين اليوم أنه ينبغي على الأمين العام، الآن وقد تمت تبرئته، أن يدفع ببرنامج الاصلاحات قدماً. ولكن، لا تستبقوا الأمور، اذ أن التقرير يشير في طياته الى عدم وجود أدلة «كافية» لتجريم الأمين العام. ولكن، هل نستخلص من كلامك، يا سيد فولكر، احتمال ظهور أدلة جديدة دامغة خلال المرحلة المقبلة من عملية التحقيق؟

يبقى البعض يتساءل هل تعافى أنان من كبوته ليستمر في أداء واجباته كأمين عام للأمم المتحدة، وهل هو الشخص المناسب لإحداث نقلة نوعية في المنظمة الدولية؟

بعد أكثر من 40 سنة أمضاها في خدمة الأمم المتحدة، بات أنان يفكر في خاتمة عهده على رأس المنظمة الدولية والارث الذي سيخلّفه بعد مغادرته. وان غداً لناظره قريب.

* مديرة مكتب «الشرق الأوسط» في الأمم المتحدة