تقليد التقليد

TT

اتصل بي سفير دولة الإمارات في بيروت، الاستاذ محمد سلطان السويدي ليوضح لي، أو بالأحرى ليصحح لفظة «البخششة» أو «الحاكي». وقال ان اللفظة تعني الصندوق الخشبي. وسألته إن كانت الكلمة فارسية الأصّل فقال أو قد تكون تركية أيضاً. وروى لي أنه كان في حوالى العاشرة، عندما عرف الآلة والراديو. وكان ذلك في السبعينات!

في السبعينات كنا في ذروة الحرب ضد البورجوازية العربية العميلة. وكنا نستخدم جميع التعابير الفارغة التي ارسلها الينا السوفيات. وكان اليمن الجنوبي المعدم المفلس الموحش الجاف يرفع شعار الاصلاح الزراعي، وليس فيه من الزراعة سوى القات!

كنت أنا أيضاً اكتب عن البورجوازية والرأسمالية والامبريالية، عندما أمسكني الصادق النيهوم بذراعي وقال، لا يليق بك ان تنضم الى جوقة الببغاوات. أين هي البورجوازية العربية؟ هل نحن معامل فرنسا وعطورها ومخابزها؟ هل نحن شركات أميركا؟ نحن مجموعة من الفقراء والحفاة والمعذبين. ودخل الفرد الليبي أيام الوصاية الدولية كان 50 دولاراً في السنة! والزراعة الوحيدة كانت الدحي (البيض) والزيتون. ربما كان في مصر وحدها بورجوازية، أغلبها أجنبي، وكان فيها باشاوات وآلاف الفدادين، وكان في سورية والعراق بعض العائلات الغنية. لكن رجلاً مثل نوري السعيد كان لا يملك اكثر مما يصرف. وشكري القوتلي كان معوزاً. والمغرب والجزائر وتونس كانت في الفقر والجفاف وبدل ان يؤمم بورقيبة الفكر والعقل والحرية دعا الجميع الى العمل وحكم على الكسل والثرثرة والتكايا بالاعدام. ورفض الفقر. وعمل على إبادة الأمية. والمال القليل الذي كان لديه صرفه على التعليم. وعندما تحررت تونس واستقلت، قال ما قاله نهرو: الآن وقد تحررت سوف آخذ من المستعمر الفرنسي أفضل ما لديه. وكذلك تطلع عبد العزيز بوتفليقة حوله، بعدما كان طليعة الثوار، وقال يجب أن تكون فرنسا اكبر شريك اقتصادي واكبر مصدر للمساعدات. وبقيت بقية الدول تطعم شعوبها الكلام والورق. وبلدان الخليج التي كانت في الفقر ايام «الاصلاح الزراعي» والتأميم والحراسة، أصبحت الآن بلدان النهضة العمرانية، فيما تعيش شعوب عربية اخرى في العراء. وليس صحيحاً اطلاقاً ان النفط هو السبب، بل ما هو أهم وأعظم من ذلك بكثير. إنه العمل.

عندما انكشفت مشاهد الداخل العراقي على التلفزيون بعد الحرب، لم نرَ سوى بيوت من الطوب ورجال فقراء في الشوارع، ليس لهم سوى جلابياتهم. وتبلغ ثروة العراق النفطية والزراعية أضعاف أضعاف مداخيل عمان. وقد سافرت في عمان فلم أجد سوى بيوت فائقة النظافة وطرقات حديثة وأناس بلا علامات فقر.

لقد أضاع العراق اربعين عاماً على الأقل في خطابات الاصلاح الزراعي. وسلم الاصلاح الى الكتبة والغضبة والمحسوبين بدل الخبراء. وكان في استطاعته ان يكون غلال العالم من الارز والتمور، لكنه أخذ يستورد العدس وهو يذيع خطابات الاصلاح! وكان في إمكان ليبيا ان تطعم اوروبا كلها زيتا وزيتوناً وخضرة، لكنها قررت بدل ذلك ان تحرر جزر الرينيون وايرلندا الشمالية وبقية أطراف هذا الكون، فيما ظل معدل الرواتب الليبية بائساً وخفضت قيمة الدينار 50% على الأقل.

عملت ثورة 23 يوليو على تقليد روسيا السوفياتية والصين برغم الفروق الهائلة في كل الظروف. وعملت اليمن والجزائر وليبيا وسواها على تقليد التقليد برغم الفروقات المرعبة في كل «الظروف الموضوعية» الا اللغة والدين. واستخدم «الثوار» كلمات مثل «البورجوازية» في بلدان لم تعرف الصناعة او الانتاج الجماعي. ولا تزال الثورة قائمة طبعاً لا تهدأ. وكذلك الخطب وكذلك الفقر والتدني المهين في مستوى المعيشة في معظم البلدان. لكن الشعارات تسرح سعيدة في نومها الأزلي. والشعوب تساق الى الشوارع لكي تهتف للجميع هتافاً واحداً: بالروح. بالدم. أي بما تبقى منهما.