يوم كنا وكانوا محترمين!

TT

هل لأننا مهذبون أو لأنهم محترمون؟

لأننا مهذبون ولأننا نحترم الأكبر سنا والأكثر علما. فأصبحنا نحن محترمين ـ بفتح الراء وكسرها ايضا.

طبيعي أن نكون كذلك.. فقد عايشنا ورأينا وسمعنا وجلسنا وناقشنا واستمتعنا بالعقاد وطه حسين والحكيم والمازني وام كلثوم وعبد الوهاب ويوسف وهبي ومصطفى عبد الرازق ومنصور فهمي ولطفي السيد وعبد الرحمن بدوي وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن الرافعي وجمال حمدان ومحمد عوض محمد وسليمان حزين وعبد الرازق السنهوري..

لقد كانت أمامنا مثل عليا.. هؤلاء النابهون قرأوا ودرسوا وحللوا وتعذبوا وكتبوا.. ورأيناهم وهم يفكرون. وهم يناقشون. وعرفنا الطريق إلى النجاح.. إلى المجد.. إلى القمة. حقيقة وليست وهما..

لقد كنا أسعد حظا من الذين نعاصرهم اليوم.. فلا رأوا ولا تمتعوا ولا جالسوا ولا عايشوا ولا ناقشوا.. ولا احترموا ولا افلتوا من جاذبية كبرى ليكون لهم مدار آخر بعيدا.. وكما تعلمنا فإننا علمنا مئات من الطلبة ومن الصحافيين الشبان. لم نكن يتامى لا أب لنا في الأدب ولا أم لنا في الفلسفة. وإنما كنا في أحضان دافئة وفي أيد أمينة ننتقل بسهولة بين الكواكب.. فليس أسهل من لقاء العقاد الا لقاء طه حسين ولقاء الحكيم.. وقد حدث أكثر من مرة أن جمعت العقاد وطه حسين والحكيم على خط هاتفي واحد وناقشتهم فيما يقول الواحد في الآخر.. معه أو ضده.. حدث! وكيف كنت اختلف مع العقاد فألجأ إلى طه حسين.. ذهابا وإيابا الى توفيق الحكيم.. والى بلدياتي لطفي السيد العالم بالفلسفة اليونانية القديمة.. والى بلدياتي عبد الرحمن بدوي.. ما الذي كنا نراه ما الذي كنا نسمع ما الذي كنا نحتفظ به.. ما الذي نستبقيه لكي نفكر؟ هل كنا جادين؟ نعم. كنا مثلهم. فما الذي همنا واهمنا؟ إن الفكر والأدب والرسالة وطول الطريق وصعوبة الملتقى والمرتقى. هل ما يزال هذا حالنا؟ أنا أقول ما يزال. فلا أزال أشعر بأنني تلميذ. أؤدي واجبي الدارسي في البيت. ولم يحدث في كل حياتي الأدبية والصحافية ان كتبت سطرا واحدا في مكتبي. وإنما في البيت.. ولا أزال كما كنت تلميذا أصحو من النوم في الساعة الرابعة صباحا. اقرأ وأكتب حتى العاشرة أما بقية اليوم فلا شيء.. اللهم إلا نشاط اللجان والزيارات واللقاءات. ولم أغير هذا النمط من الحياة.. ولم أجد سببا لذلك!

وليس الزملاء من الأدباء والصحافيين كذلك. فليلهم نهار.. ونهارهم ليل.. ويحترقون مثل سجائرهم. وهمومهم مثل قهوتهم سادة سوداء مرَة. ربما اعتادوا على ذلك مما خف عليهم الطعم واللون.

أقول قولي هذا ويحزنني ما وصل إليه التعليم الجامعي.. والعلاقة ـ إن كانت هناك ـ بين عشرات ألوف الطلبة وبين الاساتذة. لاعلاقة. لا احترام ايضا. لا استفادة من احد. من الذي نلوم؟ الظروف تغيرت، الأعداد زادت، المسافات تباعدت.. هناك قدر كبير من الاستخفاف. وهناك احساس عميق باللاجدوى واللامعنى.. وأحيانا باللامبالاة ومن الذي نلوم؟ ومن الذي لا نلوم؟

كلنا يتهم كلنا. والنتيجة: لا احترام للعلم والعلماء. فبعض الطلبة وبعض الاساتذة استطاعوا ان يقفوا في وجه الزحف غير المقدس على العلم والعلماء واضرب لذلك مثلا: فقد كان لنا استاذ مستشرق ألماني اسمه باول كراوس. كان يدرس لنا اليونانية القديمة واللاتينية والعبرية. وقد اعجبت به كثيرا.. وكان تلامذته خمسة وأحيانا أربعة وأحيانا اثنين. وأنا واحد منهم وكنت أساعده في حمل كتبه وحقيبته والبالطو.. وكان يمشي بسرعة من الصعب اللحاق به، وفي نهاية العام الدارسي التفت يقول لي عن الموضوعات التي سوف يمتحني فيها. وكانت المفاجأة. فأنا لست من تلامذته وإنما من تلامذه الفلسفة وإنما تابعته إعجابا به!

وكان باول كراوس رغم العدد القليل من الطلبة لا يقدم محاضرته إلا في أكبر المدرجات، وكان صوته مدويا كأنه يحاضر ألفا من الطلبة.. وكان الطلبة والأساتذة يتفرجون عليه من النوافذ ويقولون: مجنون..

بل عظيم الاحترام. والاحترام سلعة لم تعد رائجة في زماننا!