لا قوامة للرجل على المرأة: في الرأي والمشورة والعلم

TT

قد يعمد امرؤ أو مجتمع ما إلى طلاء «هواه» أو «عادته» بطلاء إسلامي ثم يقول هذا من عند الله. فهل هذه الدعوى هي «الإسلام الحق»؟.. لا.. لا.. لا.. لا. إلى ما لا نهاية. فالإسلام الحق هو: قال الله. قال رسوله. وليس أهواء أو عادات اجتماعية رميم تنتحل صفة الإسلام، أو تطلى بألفاظه ومصطلحاته.. لو أن أحداً من المسلمين فسدت فطرته، وأسن ذوقه، واختلت معاييره ـ الكونية والشرعية ـ فأخذ يعشق الأوساخ ويمارسها ويمجدها، وينفر من الطهر والنظافة ثم يزعم أن ذلك من دين الاسلام: أكنا مصدقيه؟ لا والذي خلق الإنسان وفطره على محبة النظافة والجمال.. كلا: لن نصدق دعوى هذا المدعي الفاسد المعيار والذوق ولو أصيب بالذبحة الحلقية من شدة الصياح بدعواه.. وكيف نصدق ممسوخ الفطرة والمعيار وبين أيدينا تعاليم الإسلام الوضيئة وبراهينه الساطعة التي تمجد النظافة والجمال وتغري بممارستهما أبدا.. نقرأ في سنة النبي ـ مثلا ـ.. قيل له ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: إن الرجل يحب ان يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا، فقال: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال». وقال: «ما جاءني جبريل إلا أوصاني بالسواك». وقال: «من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم». ولئن نسخ الإسلام وأبطل دعاوى الصاق عدم النظافة بالاسلام، فإنه ناسخ ومبطل لكل دعوى تنتقص من قيمة المرأة ومكانتها باسمه.. فكما أن هناك تعاليم إسلامية واضحة قاطعة تؤصل مفهوم النظافة والجمال، وتستنهض الناس وتحرضهم تحريضا على مباشرتهما. هناك تعاليم إسلامية واضحة قاطعة تؤصل المفهوم العالي الجليل لمكانة المرأة وقدرها وقيمتها.

لقد ختم مقال الأسبوع الماضي بسداد رأي خديجة بنت خويلد ورجاحة عقلها في أعظم حدث في تاريخ المسلمين. بل في التاريخ البشري كله وهو حدث نزول الوحي الخاتم على النبي صلى الله عليه وسلم. فقد بوغتت خديجة بالأمر، ومن هنا، لم تفكر فيه قبلا، ومع ذلك قالت لزوجها النبي ـ على بديهتها وبثبات ويقين ـ: كلا والله لا يخزيك الله أبدا. انك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ. وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.. لقد استخدمت خديجة القياس العقلي في طمأنة زوجها النبي، بمعنى أن رجلا هذه خصائصه ومواهبه ومروءاته الصالحة الفاضلة لن يخزيه الله أبدا، لأن الكريم من البشر لا يخزيه كرام الناس وأشرافهم فكيف بأكرم الأكرمين جل ثناؤه؟.. ثم بعد الطمأنة والتثبيت، أشارت خديجة على النبي بأن يذهبا ـ هو وهي ـ الى ابن عمها ورقة بن نوفل لأخذ رأيه في الموضوع. وهذه الاشارة ذاتها دليل على رجحان رأي خديجة، فقد عُرف ورقة بن نوفل بالعقل والرأي، ومحبة الحق وتحريه والبعد عن دنايا الوثنية والوثنيين. ومن هنا كان فطنة معرفة ورشد. وكانت خديجة هي المثل الأول في التدليل على سداد رأي المرأة وشوراها في السنة أو السيرة. وبديه انه لم يكن مثلا مفردا، ولا واقعة معزولة، اذ ان ثمة فيضاً من هذه الوقائع يؤلف منهجاً متكاملا في العلم والتطبيق. ومن هذه الوقائع الموثقة:

1 ـ في واقعة الحديبية: أشارت أم سلمة على زوجها النبي شورى انقذت الموقف كله. فقد غضب معظم المسلمين من ظاهر الاتفاق الذي أبرم بين النبي وقريش. وحين طلب منهم النبي: أن ينحروا ويحلقوا: امتنعوا عن ذلك على الرغم من أن النبي كرر الطلب ثلاثا. عندئذ دخل النبي على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت: يا نبي الله. أتحب ذلك؟ (أي اتحب أن يفعل المسلمون ما أمرتهم به ويزول المشكل): اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة «!!!» حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك. فلما رأوا ذلك قاموا ونحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا. وهذه شورى بالغة الذكاء والفطنة والسداد: مضمونها وقوامها: ان (الفعل) في هذا الموقف: أبلغ وأنجع من الكلام، وأشد تأثيرا منه.. وقد أخذ النبي بهذه الشورى: فانفرج الموقف، وانقشعت الأزمة: بناء على شورى امرأة.

2 ـ اعتد النبي برأي ام هانئ وأقره في مسألة إجارة وحماية أحد المحاربين.. قالت أم هانئ: يا رسول الله، زعم ابن أمي عليّ (أي ابن أبي طالب): انه قاتل رجلا أجَرْتُه (أمنتُه)، فلان ابن هبيرة، فقال النبي: «أجرنا من أجرت يا أم هانئ».

3 ـ ان المرأة عرفت حقها في الرأي والشورى ومارسته بشجاعة وثقة.. مثلا. قال عمر بن الخطاب ـ وهو من هو في المهابة ـ: بينما أنا في أمر أتأمره (أشاور فيه نفسي)، اذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا، فقلت لها: ما لك ولما ها هنا، فيم تدخّلك فيما لا يعنيك، وتدخلك في أمر أريده؟!. فقالت: عجبا لك يا ابن الخطاب!!. ما تريد أن تُراجَع أنتَ، وابنتك تراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان؟.!!

4 ـ وهذه واقعة شورية نسائية: متألقة الدلالة، ساطعة المفهوم، حية التطبيق. قال عبد الله بن عمر بن الخطاب: دخلت على حفصة (وهي أخته)، قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين (يعني حادثة التحكيم بين علي ومعاوية)، فلم يُجعل لي من الأمر شيء، فقالت: الحَقْ، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب.. ويعلق بن حجر على هذه الواقعة الشورية النسائية فيقول: «فشاور ابن عمر أخته في التوجه إليهم أو عدمه، فأشارت عليه باللحاق بهم خشية أن ينشأ في غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة، وقالت حفصة لأخيها: انه لا يجمل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد، وأنت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمر بن الخطاب».

نخلص من ذلك إلى حقيقة مجلوة راسخة وهي: انه لا قوامة للرجل على المرأة في الرأي والمشورة.

ومن زعم قوامة الرجل على المرأة في ذلك، فإنما حقائق الإسلام عاند وعارض وناقض.

وإذا كانت الوقائع الآنفة قد اختصت بالتدليل على استقلال المرأة بالرأي والمشورة، فإن السطور الباقية مفردة للتدليل على انه لا قوامة للرجل على المرأة في مجال (العلم) فالمرأة ذات أهلية تامة (100%) لتلقي العلم، ولأن تتبوأ مراكز الأستاذية ـ على الرجال ـ فيه.

وهذا هو البرهان:

1 ـ في رواية الحديث النبوي، لم يشترط علماء هذا الفن (الذكورة) في تلقيه وروايته.. فالشروط الموضوعية لرواية الحديث هي: الاسلام.. والتكليف.. والضبط.. والعدالة. وهذه كلها شروط يمكن ان تتوافر في المرأة المسلمة، كما يمكن ان تتوافر في الرجل المسلم.. وفي مقدمة موسوعته الحديثية (جامع الأصول): بسط ابن الاثير القول في هذا الموضوع بسطا مشبعا، لم يتخلله ـ قط ـ اشتراط الذكورة، أو استثناء الاناث من رواية سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

2 ـ من الناحية التطبيقية: مارست المرأة، هذا العلم: باستقلال وجدارة وأمانة، وبأستاذية كاملة على الرجال. لشيخ الإسلام ابن تيمية سلسلة أحاديث تسمى بـ(الأربعين حديثاً لشيخ الإسلام).

وفي هذه السلسلة (شيخات) أو أستاذات روى عنهن ابن تيمية.. وفيما يلي نصوص من السلسلة، كما جاءت في مجلد (الحديث) من فتاوى ابن تيمية:

أ ـ «أخبرتنا الشيخة الجليلة الأصيلة أم العرب فاطمة بنت أبي القاسم علي ابن أبي محمد القاسم بن ابي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر قراءة عليها وانا اسمع في رمضان سنة 681 وابو العباس ابن شيبان، وست العرب بنت يحيى بن قايماز».

ب ـ «أخبرتنا الصالحة العابدة المجتهدة أم أحمد زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحراني، وأحمد بن شيبان، واسماعيل ابن العسقلاني، وفاطمة بنت علي بن عساكر، قراءة عليهم».

جـ ـ «أخبرتنا الشيخة الصالحة أم محمد زينب بنت أحمد بن عمر ابن كامل المقدسية قراءة عليها وأنا أسمع سنة 684، وابو عبد الله ابن بدر، وأبو العباس ابن شيبان، وابن العسقلاني ولو كان للرجل ولاية على المرأة في العلم، لما جلس ابن تيمية يتتلمذ على شيخاته في علم الحديث. ثم انه لا قوامة للجاهل، أو الأقل علما على من هو أعلم منه. وقد ثبت ان المرأة قد تكون أعلم من الرجل ـ زوجها أو أبيها أو أخيها ـ فإذا حاول احدهم ان يكون قوّاما على علمها، فإنه يقع تحت طائلة «ولا تقف ما ليس لك به علم».