نحو دور جديد لمخابرات ما بعد الحرب الباردة

TT

معلومات المخابرات الأمريكية عن العراق «كانت في غاية الخطأ»، مما أصاب مصداقية أمريكا بضربة قاصمة ستستغرق إزالة آثارها سنوات طويلة، ولا يزال رؤساء الأجهزة الاستخباراتية في الظلام لا يعرفون إلا النزر اليسير عن برامج الأسلحة النووية في بلدان مثل إيران وكوريا الشمالية; هذا ملخص تقرير لجنة تقصي الحقائق الرئاسية عن عمل المخابرات الأمريكية وآثارها على قرار الحرب في العراق.

ويستخلص أيضا «خطأ تقييمات المخابرات للمعلومات قبل الحرب على العراق».

المخابرات مثل الصحافة، وأحيانا تتأخر الصحافة بفعل ضغط الوقت، فتهمل استشارة الخبراء في تفسير المعلومة، لكننا كصحافيين ندفع ثمنا غاليا سواء أمام القضاء، أو نطبع اعتذارا ذليلا ـ ونحن على حق لكننا لا نملك أدلة مادية تقنع المحكمة.

ونادرا ما تدفع المخابرات الثمن الباهظ الذي تدفعه الصحافة، والحكومة تساعد المخابرات بالتستر، وتدمير الوثائق. تقرير اللجنة الرئاسية في أمريكا، أو اللورد بتللر هنا، هو الاستثناء وليس القاعدة، فأسلحة الدمار العراقية المزعومة، هي أزمة دولية، وقد أدت إلى انتحار عالم جليل هو الدكتور دافيد كيللي، مما جعل شارع الصحافة العالمي، ينشب أسنانه الحادة في إخفاقها في تقييم المعلومات، التي كان مصدرها تيارات معارضة عراقية في مصلحتها التخلص من نظام صدام حسين.

منذ ثلاثين عاما درست تطوير بلد شرق أوسطي لأسلحة دمار شامل. وسعدت بحصولي، بعد جهد شاق، على معلومات الإثبات من أربعة مصادر; والقاعدة ثلاثة مصادر لا تربطها علاقة أو مصلحة مشتركة. أفتى رئيسي ـ محرر القسم الخارجي ـ بعدم مصداقية اثنين من المصادر، واحد من مخابرات بلد في خصومة مع البلد موضع التحقيق، والثاني من شركة فقدت عقدا ثمينا، مما يعني احتمال داوفع لدى المصدرين في تضليلي. ورغم غضبي وقتها، إلا إنني أشكر للرجل، رحمه الله، وكان من أعظم رؤساء التحرير الذين شهدتهم بريطانيا، قراره الحكيم.

محللو معلومات المخابرات ـ وليس جامعيها من مصادرها الخام ـ في حالة العراق، لم يضعوا في طريق تطوير المعلومة processing the intelligence and judging the analysis فلترات الشك الإيجابي التي تضعها الصحافة في طريق المعلومة وتحويلها إلى خبر.

أخطأت تحليلات المخابرات الأمريكية بشأن العراق من قبل وكان الثمن باهظا. عام 1990 اعتمدوا على الأقمار الصناعية في مراقبة العراق ـ وهي معلومات خام Raw intelligence لا قيمة لها بدون تحليل الخبراء ـ بدلا من المصادر الإنسانية على الأرض، مع غياب المحللين العارفين. قدرت المخابرات المصرية في يوليو 1990 أن صدام سيحتل على الأقل جزءا من الكويت ـوكان للمصريين عملاء كسائقين يسافرون بين البصرة والكويت. رفضت الإدارة الأمريكية تحذيرات القاهرة وصدقت تقرير السفيرة الأمريكية أبريل غلسبي التي قدرت أن «الحليف» صدام لن يفعلها. ولو استشار مجلس الأمن القومي الخبراء لعرف أن إدعاء ضم الكويت، كالمديرية التاسعة عشرة، وجد وقتها شعبية لدى الأمة العراقية.

قبلها بعشر سنوات، في لقاء خزانة تفكير Think Tankقدر خبير الـ«سي أي ايه» معنا أن الحرب التي بدأها صدام ضد إيران، لن تستمر لأكثر من ستة أسابيع. وفي لقاء آخر مماثل في ديسمبر 1987، قرر خبراء الوكالة أن الحرب نفسها ستستمر أربعة أو خمسة أعوام أخرى، وانتهت الحرب بعد ستة أشهر.

المشكلة هنا في طبيعة ودور المخابرات، وقدرتها على تطوير نفسها حسب متطلبات العصر، فمثلا طبيعة وطريقة جمع المعلومات وتحليلها أثناء الحرب الباردة تختلف كلية عن المتطلبات الحالية في الحرب ضد الإرهاب، وهذا يفسر إخفاق الأجهزة الأمريكية عن توقع هجمات 11 سبتمبر، بل والتعامل أثناء وقوعها، لأنها كانت لا تزال تفكر بعقلية مواجهة السوفييت في الحرب الباردة، ولو كانت طورت طبيعة تعاونها مع مخابرات مثل المصرية والسعودية، لمتطلبات مرحلة ما بعد التعاون ضد السوفييت في أفغانستان، لكانت استفادت خاصة أن إرهابيي القاعدة نشطوا ضد مصر والسعودية قبل 11 سبتمبر.

أيضا خلط المخابرات بين تخصصها في جمع المعلومات وتحليلها وتقديم النتائج بشكل حيادي ليتخذ المسؤول القرار الصائب، وبين عمل أجهزة الأمن، يستهلك مواردها سلبيا وينهي الحياد الضروري لتقديم تحليل صائب. الترجمة العربية لا تفي بالمعنى فالاسم الانجليزي Intelligence Service، أي خدمة الذكاء المعرفي ـ أي جمع المعلومات وتحليلها.

تدريب الأخصائيين على التحليل فن يستغرق سنوات طويلة وخبرة أجيال، فإذا دربت شخصا لسنوات على تحليل أنواع البرتقال فقط، فإنه سيري الليمون على انه برتقال أصفر.

وعندما خلطت الـ«سي أي ايه» عملها Intelligence Agency ، وعمل الآخرين في «الأمن» Security أهدرت مواردها ووقعت في أخطاء هزلية ـ محاولة إحراق ذقن الزعيم الكوبي فيديل كاسترو بسيجار مفخخ، بدلا من جمع المعلومات عن عناصر القوة والضعف في المجتمع الكوبي، ومحاولة استمالته أو إغرائه بعيدا عن المعسكر السوفييتي، لكن اقتصر تقييم «محلل البرتقال فقط» على وضع كاسترو في خانة الأعداء، وبالتالي النيل منه، بدلا من ترك الباب مفتوحا لخيارات أخرى.

متطلبات مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والتعامل مع الإرهاب، تضع تحديات جديدة أمام المخابرات ـ بمعناها المعلوماتي Intelligence وليس الأمني، كالمخابرات الشرق أوسطية من «المخبر» بالعصا والبالطو الأصفر، الذي يحصل على المعلومات بضرب الناس، أو ابتزاز المجرمين خالطا بين الأمن والمعلوماتية.

مخابرات الانقلابات العسكرية في مصر عبد الناصر، وعراق وسوريا البعث، وليبيا الثورجية، كانت جهازا قمعيا لأمن النظام بدل خدمة الدولة، وبالتالي فشلت في توقع الضربة الجوية التي دمرت طيران مصر وسوريا عام 1967، وتعاملت داخليا مع الخصم الخطأ فقويت شوكة الجماعات الإسلاموية وبطشها.

الموساد الإسرائيلية بخلطها بين المعلوماتية والأمن بمفهوم الضربات الاستباقية، وقعت في الخطأ الفادح، الذي أضر بأمنها بمحاولة اغتيال ممثل حماس في عمان قبل سنوات ومحاولة إصلاح الخطأ سياسيا بالإفراج عن زعيم الحركة الراحل الشيخ أحمد ياسين، وارتفعت شعبية حماس نتيجة ذلك، وانهار سلام ما بعد أوسلو مع العمليات الانتحارية.

خطأها الآخر في تقدير التيار الواقعي والرغبة المصرية في السلام بعد حرب يوم الغفران، جعل من مبادرة الرئيس الراحل أنور السادات للسلام مفاجأة لم يتوقعها الساسة الإسرائيليون.

ويشير هذا الدرس إلى مهمة لا تقدر بثمن للجانب المعرفي المعلوماتي الذكي للمخابرات، وهي ضرورة البحث عن النقاط الإيجابية وتيارات السلام إلى جانب مصادر التهديد الأمني في معسكر الخصم، وإبقاء الذهن مفتوحا. ومن الأفضل تجنب الحرب بدلا من خوضها وإلحاق خسائر أكثر بالخصم، فمعلومات عن تيارات السلام مثلا، تساعد على إصلاح صورة قد تكون خاطئة لدى صاحب القرار عن «العدو»، خاصة إذا ما قدم التقرير الاستخباراتي معلومات محايدة عن استعداد الخصم للتحاور والسلام بدلا من الحرب.