النظام السوداني والعدالة الدولية..أين الخوف؟

TT

المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة مستقلة عن الأمم المتحدة وعن الحكومات الأعضاء فيها وكافة المنظمات الأخرى، وتختص بمحاكمة الجرائم الجنائية المتعلقة بأربع جرائم هي: الإبادة الجماعية ـ وجرائم ضد الإنسانية ـ والحرب والعدوان المسلح.

منذ الحرب الأطلسية الثانية وتكوين محاكم نيورنبيرج وطوكيو لمحاسبة دول المحور على شن الحروب العدوانية، بدأ التفكير في ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية مستقلة. وفي يوليو 1998 عقد مؤتمر دولي في روما حضرته 160 دولة و31 منظمة دولية و238 منظمة غير حكومية كمراقبين. نتيجة له صوتت 120 دولة لصالح قيام المحكمة الجزائية الدولية، وامتنعت عن التصويت 21 دولة، وصوتت ضد قيامها 7 دول في مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل. بذلك أجيز نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ROME STATUTEوالذي وقع عليه عدد كبير من الدول حتى نهاية قفل باب التوقيعات في 31/12/2000 . وكانت 13 دولة عربية من الموقعين على نظام روما. ولكن الدول التي صادقت على النظام ـ وهو إجراء يعقب التوقيع ـ بلغت 92 دولة. السودان وقع، ولكنه لم يصادق بعد على نظام روما الأساسي، ولكن في ورشة عقدت في دار المحاميين بالخرطوم في ديسمبر الماضي طولبت الحكومة السودانية بالتصديق على نظام روما الأساسي لأنه يقيم مؤسسة قضائية مستقلة قائمة على معاهدة دولية ملزمة للدول الأعضاء، ولأن المحكمة ليست كيانا فوق الدول وليست بديلا للقضاء الجنائي، وإنما هي مكملة له في حالة انهياره أو عدم رغبته أو عجزه عن تحقيق العدالة. وقال وزير العدل السوداني في الورشة إن من رأيه أن يصادق السودان عليه.

وبعد أن استوفيت الشروط المطلوبة دخل النظام الأساسي للمحكمة حيز التنفيذ في يونيو 2002 .

المحكمة حاليا تتألف من 17 قاضيا يمثلون كل قارات العالم وتم اختيارهم من أعلى السلم القضائي بخبرة لا تقل عن 15 سنة. وتنظر في القضايا التي تحال إليها بطلب من أية دولة عضو في الأمم المتحدة، أو من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع في حالة الدول المصنفة هي نفسها بأنها تمثل تهديدا للسلام الدولي.

هذا تطور حميد في نظام العدالة الجزائية الدولية وهو أفضل من المحاكم المؤقتة التي كونت لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا (السابقة) في 1993، والمحكمة الخاصة التي كونت لمحاكمة مجرمي رواندا في 1994 . هذه المحاكم الخاصة تتأثر بعوامل سياسية ومصالح ويملي تكوينها القوى الدولية المهيمنة في وقت التكوين. أما المحكمة الجنائية الدولية فهي مستقلة ودائمة وبعيدة من المؤثرات السياسية والمصالح وتتوافر فيها كافة ضمانات المحاكمة العادلة.

إذا صحت هذه الحقائق فلا مجال لاعتبار تقديم مواطن من أية دولة للمحاكمة أمام المحكمة الجزائية الدولية، تعديا على السيادة الوطنية، لا سيما في حالة السودان وذلك لسببين:

الأول: النظام السوداني بمحض إرادته وقع على بروتوكولات السلام التي أوجبت الطلب من الأمم المتحدة أن تقوم بمهام واسعة النطاق في السودان، لضمان تنفيذ اتفاقيات السلام بموجب الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة. وفي خطاب الأمين العام لمجلس الأمن بتاريخ 31 يناير 2005 أوصى بقبول مجلس الأمن لطلب الطرفين المتعاقدين في السودان. ولكن مجلس الأمن بعد تداول الرأي اتخذ القرار رقم 1590، وفيه تحديد دور واسع للأمم المتحدة في السودان، لا بموجب الفصل السادس الاختياري، ولكن بموجب الفصل السابع الإلزامي الذي يصنف السودان خطراً على السلام الدولي. من يقرأ قرار مجلس الأمن رقم 1590 يدرك أنه يقيم سلطة انتداب على السودان.

الثاني: القضاء السوداني قضاء عريق بلا شك وقد ساهم قضاتنا في تأسيس القضاء في كثير من البلدان الشقيقة. ولكن نظام «الإنقاذ» في السودان اعتدى على استقلال القضاء لا سيما في الفترة التي أطلق عليها الشرعية الثورية، حيث أحيل عدد كبير من أكفأ القضاة للتقاعد من دون وجه حق، واستقال آخرون احتجاجا وجرى تعيين قضاة من أعلى السلم إلى أوسطه وأدناه من قضاة ملتزمين حزبياً للجبهة الإسلامية القومية سابقاً، ومن ثم للنظام القائم حالياً. تمت الإعفاءات والتعيينات بوسائل لم تراع قدسية واستقلالية القضاء. ونتيجة لهذه الإجراءات تشرد عدد كبير من القضاة السودانيين المؤهلين. وفي 5/1/2005 أرسل ممثلون لأربعمائة قاض مذكرة لرئيس الجمهورية بصورة لنا جاء فيها بالنص: «نقول بتواضع واحترام إن استقلال القضاء كقيمة حقيقة لا يقوم فقط بإيراد النصوص المنظمة إذ لا خلاف في أن دستور 1998 نص على استقلال الهيئة القضائية غير أنه لا يخفى على أحد أن الدستور شيء وواقع الحال شيء آخر. إن الهيئة القضائية بحالتها الراهنة غير مؤهلة للقيام بدورها المرتقب في حماية الحقوق والحريات وبسط العدل وتحقيق المساواة».

إن ممارسات نظام «الإنقاذ» نحو القضاء خلقت رأيا عاما في السودان، يؤيد هذا الاستنتاج فلا غرو أن جاء في تقرير اللجنة الدولية لتقصي الحقائق في حوادث دار فور أن «النظام القضائي السوداني قد أضعف كثيرا أثناء الحقبة الماضية». فأوصت اللجنة لمجلس الأمن أن يحال المتهمون بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دار فور للمحكمة الجزائية الدولية، لا سيما، ويذكر التقرير أن عددا من المتهمين هم من أفراد غير سودانيين، كما أن من المتهمين أفرادا من المقاومة المسلحة.

أساليب النظام السوداني في التعامل مع مفاوضيه خلقت رصيدا من عدم الثقة، أوجب الدور الواسع للأمم المتحدة كما نصت البروتوكولات. ومجلس الأمن لتقديره أن النظام لا ينفذ ما يلتزم به بموجب ما حدث لاتفاقه مع الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 3/7/2004 نقل تدخله من الفصل السادس للفصل السابع بموجب القرار 1590. ولتقديره أن الموقعين على إجراءات السلام والحماية الإنسانية في انجمينا في أبريل 2004 وفي أبوجا في نوفمبر 2004 لا يوفون بالتزاماتهم اتخذ القرار العقابي 1591. ومجلس الأمن، لقبوله ما جاء في تقرير اللجنة الدولية في أحداث دار فور سوف يتخذ قرارا جديدا لمحاكمة المتهمين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

الشعب السوداني حريص على سيادته الوطنية التي ضيعتها سياسات النظام الحاكم وكان معزولا تماما من كل المراحل. وهو حريص على أن ينال الجناة عقابا عادلا رادعا.

ليس في موضوع المحكمة الجنائية مس بالسيادة، ولكن المس بالسيادة الأخطر هو الوصاية القادمة. والمدهش حقا أن ما تقوله بروتوكلات السلام أفضل مما يقوله موقعوها.. وما تقوله الأسرة الدولية أكثر تطمينا من تلك البروتوكولات بشأن حقوق الإنسان.