رئاسة الطالباني.. إنهاء المحاصصة السياسية في العراق

TT

يوم تم تعيين هوشيار زيباري وزيراً للخارجية من قبل مجلس الحكم الانتقالي العراقي، وجه البعض انتقادات حادة لهذا الاختيار، على أساس أن العراق دولة عربية، ولا بد أن يكون وزير خارجيته عربياً. غير أن زيباري أثبت كفاءة في إدارة

الدبلوماسية العراقية حديثة العهد، واستطاع خلال فترة قصيرة أن يكسب احترام وتأييد المجتمع الدولي، وأن يعيد العراق الى الصف العربي.

وإذا نظرنا الى تعيين وزير كردي في وزارة سيادية كوزارة الخارجية، من زاوية موضوعية، فإننا نرى أنها كانت خطوة منطقية لإزالة فوارق المواطنة بين مكونات الشعب العراقي، وهي الفوارق التي سادت طوال الفترات السابقة. وقد كرس النظام الديكتاتوري السابق ظاهرة التمايز الوطني في العراق، فأظهر الكرد وكأنهم أقل وطنية من غيرهم، بل حاول أن يضعهم في مرتبة ثانوية في سلم المواطنة، الذي فرضه

على الحياة الاجتماعية والسياسية في العراق. وفي هذا السياق جاء تعيين النظام الصدامي لشخصية كردية في منصب نائب رئيس الجمهورية وهو المنصب الشكلي الفارغ من

المضمون، على أنه مكسب كبير للكرد، وأنه مكرمة من الحكومة تفوق استحقاقاتهم.

غير أن حقائق التاريخ والميدان تثبت أن للكرد وقفاتهم المشرفة في العراق مثل مشاركتهم في ثورة العراق التحررية عام1920، وما تلاها من أحداث، وقد كان للنضال الكردي دوره البارز في تقويض أعمدة الديكتاتورية في العراق، بعد معاناة طويلة يعرفها الجميع، ويعرف نضال الزعيمين الكرديين، البارزاني والطالباني وجهودهما في المعارضة العراقية طوال فترة حكم صدام حسين. وقد استطاعا أن يفرضا نفسيهما في المجتمع الدولي كشخصيات سياسية ذات لياقات زعامية.

وعندما تطرح اليوم فكرة ترشيح السيد الطالباني لرئاسة جمهورية العراق، فإن مرجحات قبول هذا الترشيح تستند الى الكثير من الحقائق الموضوعية في ظل ما يعيشه

العراق من ظروف حساسة.

فلا أحد يشك في قدرات الطالباني كرجل سياسة، ولا أحد يشكك في نضاله ضد الدكتاتورية، فلقد عانى كزعيم كردي، من التسلط الدكتاتوري على العراق، وتحمل نتائج ذلك من خلال ما لحق بالشعب الكردي خاصة، والعراقي عامة من مآسي طوال فترات مديدة من الزمن. وعندما تمتعت كردستان بالحكم الذاتي أوائل التسعينات، كان الطالباني حريصاً على الحياة الديمقراطية، وساهم مع الزعيم الكردي مسعود

البارزاني في إرساء الحياة الديمقراطية في كردستان. وفي تجربة كردستان تكشفت قوته الإدارية والسياسية، وهي ميزة أساسية يحتاجها العراق في هذه المرحلة، حيث يحتاج الشعب الى رئيس قوي يمتلك الخبرة والعلاقات الدولية الواسعة والتاريخ السياسي الطويل.

وعلى هذا، فالعراق بحاجة الى رجل ساهم في صياغة المشروع الديمقراطي وخاض التجربة من موقع التأسيس والمسؤولية المباشرة.

إن ترشيحه رئيساً للجمهورية يساهم في وضع الأساس المتين لمبدأ وحدة المواطنة بين مكونات الشعب العراقي، وأن عهد التمييز لمراتب المواطنة قد انتهى، ليبدأ العراق مرحلة جديدة يعيش فيها الجميع المساواة الحقيقية كأبناء لهذا الوطن يتمتعون بنفس درجة المواطنة، وأن الجهد والإخلاص والكفاءة هي المعيار الأول في تقييم الأشخاص، وليس الانتماءات القومية والمذهبية.

بقليل من التأمل نعتقد أن تولي الطالباني لمنصب الرئاسة، سيساهم في تعزيز الوحدة الوطنية العراقية، وهو أمر مهم الى حد كبير في عراق اليوم، من أجل إحداث التماسك الوطني الحقيقي بين مكونات الشعب العراقي. إذ سيلغي انتخاب الطالباني الكثير من الحواجز القومية في العراق، وسيكون بمثابة جسر التواصل الحقيقي بين العرب والكرد، بعيداً عن التراكمات القديمة التي أريد لها أن تعزل العرب عن الكرد، عبر سياسات الأنظمة السابقة.

يضاف الى ذلك، أن ما يثار في وسائل الإعلام عن مشروع الانفصال الكردي، سيتحول الى مجرد تهمة فارغة، فمع تبوء منصب رئاسة الجمهورية من قبل شخصية كردية، يكون

الكلام عن الانفصال كلاماً عابثاً لا تدعمه حقائق الواقع.

وثمة نقطة على قدر كبير من الأهمية، تلك هي أن رئاسة الطالباني ستقدم البرهان العملي على المنهج الديمقراطي، الذي يسير عليه العراق الجديد، إذا نظرنا للحاضر بعين تحدق في آفاق المستقبل، فالبناء العراقي الجديد، يحتاج الى إعادة تشكيل

جديدة، والى تجاوز عادات سياسية قديمة لا رصيد لها من الموضوعية، ويخشى منها أن تستمر في عراق ما بعد ظلام صدام حسين، وتتحول الى ثابت من ثوابت الحياة الجديدة

للعراق، لا سيما وأن هناك بعض الآراء كانت تعلن أن المحاصصة القومية والمذهبية باتت أمراً حتمياً في العراق.

إن العراق بحاجة الى تداول مرن وشفاف للسلطة، ولا سيما في مواقعها الرمزية العليا، وأبرزها هنا منصب رئاسة الجمهورية، يضاف الى ذلك أن تولي هذا المنصب من

قبل شخصية كردية، سيساهم في إلغاء أي توزيع طائفي أو قومي للمناصب في المستقبل، فلا يعد منصب رئيس الجمهورية للسنة العرب ورئاسة الوزراء للشيعة العرب ورئاسة البرلمان للكرد، كما كان شائعاً قبل الانتخابات، وهو ما شكل مأخذاً على العملية السياسية في العراق، وتصاعدت موجة النقد من أطراف عديدة، تصف العملية الديمقراطية بأنها محاصصة محسوبة تهدد العراق بالتقسيم والتمزق. وعندما يتم انتخاب السيد الطالباني فهذا يعني بداية عملية لكسر احتكار السلطة، ومنع المحاصصات القومية والطائفية، وبذلك يمكن الاطمئنان الى مسيرة ديمقراطية متينة، تبدأ بخطوات صحيحة، كما يمكن الاطمئنان الى أن سلطة الإنسان هي التي ستفرض نفسها فوق أي صفة أخرى، سواء أكانت دينية أو قومية.

بعد أن يتم انتخاب الطالباني لرئاسة الجمهورية، سنشهد واقعاً واضحاً، يلغي حسابات التقسيم، ومحتملات الانفصال الكردي، إنه سيربط كردستان بقوة بالمركز العراقي المتمثل بالعاصمة بغداد.

نتوقع أن تكون رئاسة الطالباني مقدمة لنسيج اجتماعي متماسك بين مكونات الشعب العراقي، يتحرك بواقعية وصدق، بعيداً عن الشعارات والأمنيات، ليمضي على الطريق شاخصاً متجسداً تراه عيون العراقيين، وتتحسسه بالممارسة والعمل، لأن ذلك سيحدث نتيجة انتخابات ديمقراطية نزيهة تحدث لأول مرة في العراق.

* مدير مشروع التاريخ الشفهي المصور

في مؤسسة الذاكرة العراقية