مصائب قوم عند قوم «دراهم»

TT

بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري ومع تتابع المظاهرات اللبنانية من جميع الفئات والاتجاهات أصبح الإقبال على اقتناء الأعلام اللبنانية كبيراً إلى درجة أن قماش «التاترون» المستورد من تايوان والذي تصنع منه الأعلام أصبح مفقودا من الأسواق، واستيراد كمية أخرى منه بالطرق العادية يستغرق ما لا يقل عن 45 يوماً، مما جعل بعض التجار يستوردونه عن طريق الجو، فارتفع سعره، وتشكلت سوق سوداء للأعلام، وغدت تجارتها حرة وعامة ومفتوحة أمام الجميع إلى درجة أن بعض النساء أصبحن يخطنها في منازلهن.. وقد أثرى من وراء تلك الهجمة «الإعلامية أو الرايتية» مجموعة من الناس الذين يتمنون من أعماق قلوبهم أن تستمر تلك الأزمة، أو بمعنى اصح ذلك التصارع الوطني على «حب لبنان» بين المعارضة والموالاة إلى «ما شاء الله» ـ على شرط ألاّ تصل الأزمة إلى حد «التقويص» والتفجير ـ فعندها سوف يؤكل الأخضر واليابس، بما فيها الأعلام والذين رفعوها أو استوردوها أو خيطوها.. على أية حال «مصائب قوم عند قوم فوائد».

ومثل تلك المصيبة أفادت تاجراً صغيراً في لندن بالقرن السابع عشر، وهو أيضاً تاجر أقمشة، وكان طبيب الملك من أقاربه، وفي ليلة كانا متنادمين فيها ومنتشيين من الشراب، فأسر طبيب الملك لقريبه التاجر أن الملك مريض بمرض خطير ويشك ببقائه على قيد الحياة لمدة سنة واحدة، غير أنه لا يريد أن يصرح بذلك فيحدث بلبلة في البلد، فلمعت في عيني التاجر فكرة جهنمية، غير انه لم يفصح عنها. وما أن انبلج الصباح إلا وهو يضع تخفيضاً كبيراً على بضائعه التي في دكانه ويبيعها كلها ويقبض ثمنها، ثم يبيع منزله بكل ما فيه، ويستدين فوق ذلك مبلغاً كبيراً، ويشتري من السوق كل قماش اسود، وبعد أن تأكد أن لندن خلت من الأقمشة السوداء تقريباً، ذهب إلى فرنسا واشترى بالآجل كل ما يستطيع من القماش الأسود ثم عاد إلى لندن، والكل يعتقد انه قد أصيب بالجنون، وقعد ينتظر في دكانه الصغير الذي يمر عليه الزبائن من دون أن يقفوا أمامه، لأنه أساساً حوله إلى مستودع مغلق. غير انه في الواقع لعب كأي «مقامر» مؤملاً أن الملك سوف يموت قريباً، وسوف يتهافت الناس على تفصيل وارتداء أثواب الحداد السوداء. وفعلاً ما هي إلا عدة اشهر قليلة إلا وتوفي الملك، فأقفل التاجر الخبيث عليه باب دكانه وأخذ يرقص ويصفق فرحاً على «واحدة ونص» لأن «البلية» أو كرة «الروليت» قد ضربت معه، فيما كان البكاء والحزن يلف الناس في الخارج.

بعدها خرج مشمراً عن أكمامه يبيع ذلك القماش الأسود على الناس وكأنه يبيع ذهباً، ومع احتكاره له فقد ارتفع سعره أضعافاً مضاعفة، وليس هناك وقت للاستيراد، إذ لم تكن هناك في تلك الأيام لا طائرات ولا ما يحزنون، وأيام العزاء كانت محدودة، ويقال انه بسبب تلك «الوفاة العزيزة على قلبه» أصبح من أغنى تجار لندن، وما زال أحفاد أحفاد أحفاده يرفلون بالنعيم من وراء ذلك القماش الأسود، أو من وراء تلك الجنازة الرائعة والغالية على قلبه.

[email protected]