ميثاق وطني مصري لتحديد شروط اللعبة

TT

عادت الأنظار تتركز على مصر، حيث التوقعات بأن الأوضاع داخلها في الأشهر المقبلة سوف تتردى، إذ على الرغم من تحذير المسؤولين المصريين بأن النظام لن يسمح للمعارضة بالتظاهر من دون ترخيص، يستمر هؤلاء في معارضتهم، وانضم إليهم طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة.

الكاتب والمحلل المصري الكبير محمد حسنين هيكل، قال من على قناة «الجزيرة»: «لقد دخلنا مرحلة خطيرة، حصل خرق ما وسوف يؤدي إلى أشياء أكبر».

يلتقي جميع المطالبين بالإصلاح، حتى الآن، على إلغاء قانون الطوارئ المفروض منذ عام 1958، لأنه بنظرهم وسيلة الدولة لمنع المظاهرات المعارضة، وبإلغائه تتحقق حملة انتخابية حرة وعادلة. الرئيس المصري حسني مبارك، قال في حديث نشرته صحيفة «الفيغارو» الفرنسية، في الخامس والعشرين من الشهر الماضي: «في مصر، الإسلاميون فقط يطالبون بإلغاء هذا القانون، وأنا لن أسمح بالفوضى أن تعم».

قبل ذلك، وفي المؤتمر السنوي للإصلاح، قال مبارك إن إصلاح الأنظمة السياسية العربية، لا يمكن أن يأتي من الخارج، بل من إرادة الدولة نفسها. ولوحظ بعد ذلك، أن الدول العربية في مؤتمر القمة لم تأت على ذكر الإصلاحات الداخلية التي كانت التزمت بها سابقاً تجاه الأمم المتحدة.

ان المشكلة في مصر، وغيرها من الدول العربية، أن القائمين على الداخل، يرفضون التغيير، والسبب، كما تقول العبارة: ان الكبار في السن يكتفون بالنظر إلى الوراء، إلى الماضي، ولا يحسنون النظر حولهم، والكثير من حولهم يتغير. ان الهوس من الإسلاميين موجود في العديد من الدول العربية، وزاد بعد 11 سبتمبر، لكن، كما ان القائمين على السلطة في الدول العربية يتخوفون من أن يطيح بهم وصول الإسلاميين إلى السلطة، فإن الكثير من القوى السياسية الأخرى، تتخوف من أن تكون الأنظمة، وعن قصد، في جرفها للإسلاميين، تريد جرف بقية الحركات معها.

أحد المتابعين للوضع المصري، يحلل الوضع كالتالي: لسنوات طويلة نجحت الحكومة المصرية في تدجين المعارضة عبر سياسة «فرّق تسد»، لهذا، المطلوب الآن أن تجلس المجموعات المختلفة الآيديولوجيات، وتتجاوز خلافاتها، وتتفق على برنامج إصلاحي واسع يكون مقبولاً من كافة المصريين، بغض النظر عن توجهاتهم الدينية. ويضيف: إذا استمر الاخوان المسلمون في التحرك بمفردهم، سيبقون هدفاً سهلاً للحكومة لضربهم، وإذا استمر اليساريون والعلمانيون بتجميد الإخوان المسلمين خارج حزب «كفاية»، فإنهم لن ينجحوا في جذب الجماهير إلى الشارع للتظاهر. ان التأييد الجماهيري لهذه الأحزاب هو الذي يدفع حكومة مبارك للإقدام على إصلاح ديمقراطي حقيقي.

تجدر الإشارة إلى أن «اللعب» في مصر بطريقة عبثية هو الخطر الحقيقي الذي يمكن أن يزعزع منطقة ودول الشرق الأوسط، خصوصاً العربية. وكان الرئيس مبارك، فاجأ المصريين في 26 شباط (فبراير)، بأنه سيطلب من البرلمان تعديل المادة 76 من الدستور، بحيث يُسمح لعدد أكبر من المرشحين لمنصب الرئاسة، الذي سيجري التنافس حوله في شهر أيلول (سبتمبر) المقبل. كثيرون قالوا إن الضغوط الأميركية بدأت تثمر، غير أن المسؤولين في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم قالوا إن الخطوة معدة منذ فترة، متناسين ان الرئيس نفسه كان أكد قبل أسابيع قليلة من إعلانه ذلك، أن أي محاولة لتعديل الدستور ستكون «بلا جدوى».

هناك اعتقاد بأن الرئيس مبارك، الذي يحكم مصر منذ عام 1981، وقاوم بشدة في السابق كل الدعوات إلى المزيد من الديمقراطية والانفتاح السياسي، يدرك الآن أن الأوضاع تغيّرت، وأن واشنطن مع الفترة الرئاسية الثانية للرئيس جورج دبليو بوش، لا تردد مجرد شعارات، وقد لمس هذا الشيء من خلال احداث محددة وقعت. ففي السادس عشر من شباط، عبّرت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس، عن قلقها «العميق» بسبب زج أيمن نور، رئيس حزب «كفاية»، في السجن، وأبلغت هذا لوزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، ثم أبلغت القاهرة بأن عليها أن تضع اقتراحات جدية للإصلاح، وأن تكون جاهزة في الثالث من شهر آذار (مارس) خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب مع وزراء خارجية الدول الصناعية الثماني. ردت مصر بأن ألغت الاجتماع، عندها، ألغت رايس زيارتها التي كانت متوقعة إلى مصر في 25 شباط. وبعد يوم واحد، أعلن الرئيس مبارك عن دعوته البرلمان لإجراء التعديل المحدد في الدستور.

في تلك الأثناء، كانت المشاعر المعادية لمصر تنمو في قاعات الكونغرس الأميركي، وظهر انها بدأت تلقى دعماً من وزارة الخارجية والبيت الأبيض، وجاءت خطوة مبارك لتخفيف النقد ولتفشيل الخطط التي كانت تهدف لتخفيض المساعدات العسكرية الأميركية إلى مصر، وكذلك المالية!

احزاب المعارضة في مصر، لم تكتف بتعديل المادة 76، ودعا حزب «كفاية»، إلى مراجعة شاملة لدستور 1971، وطالب الإصلاحيون بتعديل المادة 77 لتحديد فترة الرئاسة بدورتين فقط. والدستور المعمول به، يضع كل السلطات في يدي الرئيس، بما فيها تعيين الوزراء وبعض النواب ورؤساء الأجهزة الإعلامية كرؤساء التحرير مثلاً. الإصلاحيون يطالبون بتحويل السلطات إلى البرلمان، ويلحظ عدد كبير من شخصيات المعارضة، إلى ان اقتراح الرئيس مبارك لا يكفي، ذلك ان تونس تعتمد مبدأ السماح لعدد كبير من المرشحين للتنافس على منصب الرئاسة، ومع ذلك ينجح الرئيس زين العابدين بن علي في الفوز دائماً بنسبة لا تقل عن 90% من الأصوات!. لذلك، فإن جدية التغيير الذي اقترحه الرئيس مبارك، تعتمد على العبارات المحددة التي سترد في مسودة التعديل، خصوصاً حول مَن يحق له ترشيح نفسه، ونوع الدعم الذي يحتاجه ليفعّل ذلك. مع العلم بأن الحزب الحاكم يسيطر على البرلمان.

ما يعوّل عليه الرئيس المصري، في ملاحظته بأن الديمقراطية في مصر والعالم العربي لا يمكن استيرادها من الخارج، هو ان الولايات المتحدة في حاجة إلى حليف عربي يمكنها الاعتماد عليه، وواشنطن تعتمد على القاهرة كوسيط فعّال في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، وأيضاً كعامل موازن مع إيران وسورية، وعلى دور مصر ونفوذها في العالم العربي، لكن، وعلى الرغم من ان مصر هي بين الدول الأعرق في العالم من ناحية المؤسسات، ولها تجارب في السياسة الديمقراطية، إلا أنها كانت في أغلب الأوقات دولة الحزب الواحد، وهذا أدى إلى النتيجة التقليدية لهذه الحالة من الحكم. أي عدم وجود بديل سياسي، باستثناء «الإخوان المسلمين» القوة السياسية المنظمة، وهذا ما تدركه القوى السياسية الأخرى في مصر. إذ قال احد أعضاء حزب الوفد: ان الإخوان يملكون الشارع السياسي في مصر، وهذا تدركه واشنطن.

ويقول لي مصدر سياسي غربي: ان النظام المصري يواجه خطراً حقيقياً، إذ لا نائب للرئيس. ومبارك قال إن المقرّبين منه نصحوه بعدم اختيار نائب لكي لا يبدو انه يدعم احدهم!. وقد يلجأ إلى العودة إلى أسلوب الاعتقالات ـ ما فعله باعتقال زعماء من «الاخوان المسلمين» ـ في وقت تفكر فيه إدارة بوش بإيجاد الحلول عبر نشر الديمقراطية. ويؤكد محدثي ان وضع مصر يقلق فعلاً الإدارة الأميركية، والدليل ان الرئيس بوش ركز على مصر والسعودية في خطابين رئيسيين له، كالدولتين المحتاجتين للمزيد من الديمقراطية، وقد انتقد وزير الخارجية المصري أبو الغيط بشدة دعوة بوش الى الديمقراطية، لكن، بعد ذلك، أطلقت مصر سراح أيمن نور لتواجه باستعدادات «الاخوان المسلمين»!

أسباب الخوف على مصر كثيرة، لأن أي خضّة تحدث في بلاد الـ 72 مليون نسمة، تهدد الأمن الإقليمي كله، خصوصاً ان نسبة البطالة مرتفعة، وهناك فقر منتشر، وقد تكون خطوة الرئيس مبارك بتعديل المادة 76 من الدستور، ليست اكثر من محاولة لتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية على نظامه، لكن تبقى خطوة أولى مهمة، ذلك ان النظام اعترف بأن مصر صارت في حاجة إلى تغيير، وان الأسس الشرعية لتنافس اكثر من مرشح على منصب الرئاسة بدأ وضعها، ولو على الورق، ويمكن للنظام مع تعديله إحدى مواد الدستور أن يعد ميثاقاً وطنياً يحدد شروط اللعبة ويضمن الحريات من دينية، وحرية التعبير، وحقوق المرأة، والأقليات، فيقطع الطريق على كل من يهدف إلى زعزعة استقرار مصر، بسبب دعوة واشنطن إلى المزيد من الديمقراطية.