النفوذ الإيراني هو المشكلة وليس الطائفة «الشيعية»!

TT

أكبر خطر يهدد التجربة العراقية الجديدة، التي يُعدُّ لها لتكون نموذجاً للأنظمة العربية كلها في القرن الواحد والعشرين، هو إضفاء الصفة والصيغة الإيرانية على شيعة العراق وجعل ارتباطهم المذهبي بهذه الدولة الإسلامية، يتفوق ويفوق ارتباطهم القومي ـ العربي بالدول المجاورة، وعلى حساب انتماء العراق القومي الذي بقي حضورهُ فاعلاً وحيوياً في قلب الأمة العربية.

عندما أطاحت الثورة الإسلامية عرش أسرة بهلوي في فبراير (شباط) عام 1979 انقسم العرب كلهم في كل أقطارهم الى فريقين، فريق أيَّد هذه الثورة التي قادها الإمام روح الله الموسوي الخميني، على اعتبار أنها قضت على واحد من أهم مرتكزات الغرب والولايات المتحدة في هذه المنطقة وفريق رفضها وقاومها ودعم، سراً أو علناً، من واجهها وتصدى لها خوفاً من إشعال نيران التغيير في منطقة كانت مؤهلة للاشتعال.

ولقد كان المفترض ألا يغلب النظام الذي أقامته هذه الثورة على أنقاض نظام أسرة بهلوي العلماني المنهار الصفة المذهبية على الصفة الإسلامية العامة، كما وكان الأفضل ان يكون الرأي للذين قالوا إنه لا يجوز الإنحياز لمذهب واحد من مذاهب المسلمين وأنه حتى تكون طهران الناطقة باسم الإسلام في كل مكان، فإنه لا يصح ان يُضمَّن الدستور الإيراني بنداً ينص نصَّاً صريحاً على أن «دين الدولة هو الإسلام وفقاً للمذهب الجعفري الأثني عشري».

لكن الغلبة خلال النقاش، الذي احتدم حول هذه المسألة غداة انتصار الثورة الخمينية وعشية إعداد دستور الجمهورية الإسلامية، كانت للتيار الأكثر محافظة فتم إقرار البند القائل بأن دين الدولة (الجديدة) هو الإسلام على المذهب الجعفري الأثني عشري، وبهذا فقد عزلت هذه الثورة نفسها وعزلت نظامها في دائرة ضيقة، هي دائرة المسلمين الشيعة الذين يعتبر تواجدهم في غير إيران والعراق تواجداً غير أساسي من الناحية العددية، ومن ناحية الفعل والتأثير. إن معظم الاصطفاف العربي والإسلامي ضد «دولة الثورة» في إيران، كان سببه الخوف من امتداد النفوذ الإيراني الى بعض دول المنطقة وتحويل الشيعة في هذه الدول الى مراكز لهذا النفوذ ويقيناً لو أن الجمهورية الإسلامية لم تُضمِّن دستورها البند الآنف الذكر المتعلق بدين الدولة، والذي نصَّ نصاً صريحاً على المذهب الجعفري الأثني عشري، ولو أنها لم ترفع شعار: «ولاية الفقيه»، لوجدت دُولاً عربية أخرى كثيرة تقف الى جانبها ضد العدوان غير المبرر، الذي كان ظلماً ما بعده ظلم، الذي شنه عليها صدام حسين، لاغتيالها قبل ان تقف على أقدامها وتصبح قوة فاعلة على الصعيدين الإقليمي والدولي.

إذن.. إن المسألة على هذا الصعيد وفي هذا الصدد ليست الشيعة، فالتشيع لآل بيت رسول الله كان مقبولاً وموضع تعاطف من قبل أئمة أهل السنة كلهم، أبو حنيفة النعمان وأحمد بن حنبل ومالك والشافعي رضوان الله عليهم جميعهم، إن المسألة هي الخوف والخشية من النفوذ الإيراني، الذي كان أحد أسباب الحروب التاريخية المعروفة بين الدولة الصفوية الإيرانية، ودولة الخلافة العثمانية التركية. وهنا فإن ما يعزز هذه المخاوف، هو ان أحد التيارات الرئيسية في دولة الجمهورية الإسلامية لم يخفِ لا التزاماته ولا دوافعه القومية الفارسية، وبقي منذ فبراير (شباط) عام 1979 يعمل وينظم داخل إيران وخارجها لاستعادة أمجاد دولة فارس التي امتد نفوذها من مزار شريف الى مصر، والى معظم بلاد الشام والى جزءٍ من اليونان عبر البحر الأبيض المتوسط. ولعل ما لا يعرفه كثيرون ومن بين هؤلاء بعض الذين ينفون عن دولة «الثورة الإسلامية» في إيران، الصفة القومية الفارسية ان الإمام الخميني، رحمه الله، رفض ترشحُّ جلال الدين الفارسي لرئاسة الجمهورية الوليدة في الانتخابات التي أجريت مبكراً لهذا المنصب السيادي، بحجة أنه من أصول غير فارسية وأنه، رغم أنه شيعي وانحاز في وقت مبكر للثورة الخمينية، من أصول أفغانية. لا شك في أن هناك نزعة في بعض الاوساط السنية، ليس في العراق فحسب، ولا في إيران وحدها، ضد المسلمين من الشيعة وأغلب الظن ان هذه النـزعة تتكئ في جانب كبير منها على الموروث، الذي وصل الى هذه الأجيال من أدبيات عهد الخلافة العباسية وتتكئ في الجانب الآخر على ما أفرزه الصراع العثماني ـ الصفوي من مفاهيم غير صحيحة وإساءات متبادلة اعتمدت حبك الروايات المفتعلة والاتهامات الباطلة المتعمدة. لكن، وبصورة عامة، فإن المؤكد ان الخوف من النفوذ الإيراني، بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية هو سبب كل هذا الحذر المستجد ضد أتباع المذهب الشيعي في الوطن العربي، الذين لا يشكك في عروبتهم وإخلاصهم إلا ظالم ومتجنٍ وحاقد، والذين بقيت مساهمتهم الى جانب أشقائهم من ابناء الأمة العربية رئيسية وعلى قدم المساواة وفي بعض الأحيان أكثر. ليس في مصلحة الشيعة العرب، ولا في مصلحة المنطقة كلها ان تتخذ النجاحات التي حققتها الطائفة الشيعية العراقية بعد «تحرير العراق» وانهيار نظام صدام حسين طابع امتداد النفوذ القومي الفارسي في هذه الدولة العربية، فهذه مسألة إن هي سادت، فإنها ستدفع العراق دفعاً الى التشرذم والانقسام والتمزق المذهبي والاثني، وأنها ستحول هذا البلد الذي لم يلتقط أنفاسه بعد الى ساحة لتصفية الخلافات الإقليمية وتسديد الحسابات الدولية.

لا يفهم الكثيرون من أبناء هذه المنطقة، إن على صعيد أنظمة الحكم، وإن بالنسبة للناس البسطاء العاديين، كيف ان آية الله العظمى الإمام علي السيستاني، أدام الله ظله، يتمتع بكل هذا النفوذ الكاسح في دولة العراق وهو الإيراني، الذي رفض حتى بعد الانتخابات الأخيرة، التخلي عن جنسيته الإيرانية واستبدالها بجنسية هذا البلد العربي، الذي أصبح بعد إسقاط نظام صدام حسين من قياداته الفاعلة والفعلية والرئيسية. لا يعرف معظم أبناء هذه المنطقة من أهل السنة تراتبية المرجعيات في الطائفة الشيعية، بعيداً عن الإنتماء القومي، ولذلك فإنهم اعتبروا ان الانتصار الذي حققه الشيعة في الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة، التي ظللتها صورة الإمام السيستاني، انتصاراً للنفوذ الإيراني في العراق، وهذا شعورٌ لا بد من تبديده من خلال ممارسات المرحلة الجديدة، ومن خلال الإثبات بالأفعال بعد الأقوال ان الصداقة مع إيران ضرورية، لكن الالتـزام بعروبة العراق هو الأساس، وهو الأكثر ضرورة.