التوازن بين الدين والسياسة

TT

تتسم بدايات القرن الواحد والعشرين بالتناقضات وردود الفعل السلبية. ويرجع ذلك في معظمه إلى تغير في التوازن بين الدين والسياسة، وهو تغير مقلق في التوازن كان واضحا هذا الأسبوع في عواصم مختلفة كل الاختلاف مثل روما وبغداد والقدس وواشنطن.

لقد أصبح الدين، بأشكاله المختلفة، الذي كان دائما مصدرا للتقدم عبر التاريخ، قوة أساسية لردود الفعل السياسية السلبية في عصر العولمة. ففي الوقت الذي أصبحت فيه التغيرات الاجتماعية والسياسية أكثر درامية وغير متوقعة وقسرية، أخذ الناس يسعون نحو التأكيدات الخالدة.

والسلبية عبارة عن محرك من التناقضات، فمن السهل التغلب على رد الفعل بالفعل، وفهم شهقة اليأس باعتبارها دعوة للانطلاق، أو الخلط بين الدجاجة والبيضة. ويمكن ن يكون ذلك صحيحا بالنسبة للأميركيين الذين اعتادوا قولبة الدين والسياسة، ولكنهم يواجهون توجهات عالمية تسير في اتجاه معاكس. ورد الإسلاميون المتطرفون على تزايد علمانية المجتمعات الإسلامية، بالدعوة إلى الجهاد ضد كل ما هو عصري وما يبدو أنه يسير في طريق تقدمي. ويشن المسيحيون الانيجليون حملات ضد الانتشار، الذي لا يمكن إنكاره، للتجديف والسلوك المبتذل في الحياة العامة الأميركية ولكنهم في الوقت نفسه يدعون لجعل الدين «والقيم الأخلاقية» جوهر السياسة الأميركية.

وكان البابا جون بولس الثاني في الفاتيكان، يحظى بالاحترام والتقدير عبر أوروبا، حتى بالرغم من فقدان الكثير من الكنائس للمترددين المنتظمين أو أغلقت. ويُرثى البابا، بوجه حق، باعتباره واحدا من الشخصيات السياسية الفعالة في القرن الماضي، لكنه، وفي نفس الوقت، يدينه العديد من المتدينين باعتباره متشددا.

وفي إسرائيل دنس المتشددون الدينيون قبر اسحق رابين وغيره من الشخصيات السياسية خلال عطلة الأسبوع الماضي، للتعبير عن معارضتهم لخطة ارييل شارون بالانسحاب من قطاع غزة. وفي بغداد أجرى رجال الدين مناورات لمنح الإسلام موقعا مميزا في الدستور العراقي الجديد، في الوقت الذي شن فيه المتطرفون السنة حربا دينية مكشوفة ضد إخوتهم الشيعة.

لقد لعب الدين دورا أساسيا في السياسة في معظم المجتمعات حتى لو لم يتم الاعتراف به. ولكن هذا الدور يتغير اليوم في عديد من الأماكن ـ ولا سيما في الشرق الأوسط ـ حيث أصبح الدين سياسة بدرجة كبيرة. ولكي نكون أكثر دقة، أصبح الدين يملأ الفراغ الناشئ عن فشل سياسة الدولة في شرح واستيعاب قوى التغيير المترابطة في عالم العولمة شديد الترابط والنشاط. إن واحدة من الوظائف الأساسية للسياسة في المجتمعات المعاصرة، هي التوسط بين الدين والعلمانية، وطرح وسائل سلمية تحظى بالإجماع لإعادة رسم الحدود في الوقت الذي تتطور فيه القواعد المحلية والقومية للسلوك في الوقت الذي لا تتطور فيه الكنيسة. وكانت هذه العملية غالبا عملية «تعريف» للمشرعين، وهم يسحبون الاحتكار الذي نظم ادعاء الأديان بحق منع أو توصيف السلوك عبر إعادة تعريف ذلك السلوك باعتباره أساسا مسألة ذات أهمية مدنية. ويكتب لوكاتش قائلا إن المفارقة هي التي تحكم في الوقت الحالي لـ«الثنائيات» الدائمة و«التعايش العنيد بين الاستمرارية والتغير».

ولم يسبق للعالم أن توفرت فيه وسائل اتصال واسعة كما هو الآن، ومع ذلك فإنه لم يخلق الكثير من الفهم والحكمة. ويشير لوكاتش إلى أنه في المجتمعات الصناعية المتقدمة «أصبح إنتاج الاستهلاك أكثر أهمية من إنتاج السلع». وبينما «مدت المؤسسات والمحاكم السمة القانونية إلى الأفعال الخاصة من كل نوع، فإن عددا أقل من الناس يقيمون الخصوصية أو يقدرون على تهذيبها». وينهي لوكاتش هذه الدراسة اللامعة لتناقضات العصر الجديد الظاهرة التي يراها عبر توضيحه ايمانه الديني العميق المتواصل. وسواء اتفقنا مع لوكاتش حول تلك المسألة أو اختلفنا، فإن عمله يقدم إطارا قيما لفهم عواقب التغير التي تعيد تنظيم العالم وإدراكنا له.

* خدمة مجموعة كتاب «واشنطن بوست»