مرة أخرى: لبنان والخروج من سجن الأزمة

TT

بعد العاصفة التي نبعت من جريمة قتل الرئيس الحريري البشعة فهدت سدوداً انطلقت من ورائها المياه هادرة تملأ الأخاديد فتجعل منها أنهاراً تندفع نحو بحور مجهولة، لعله قد آن الأوان لكي يفكر أشقاؤنا اللبنانيون الذين مهما اختلفت انتماءاتهم الطائفية أو الحزبية أو الدينية في كيفية الخروج من الوضع الخطير الذي إذا امتد فلن يجني أحد منه سوى ثمار مرة ومسممة، وأن نفكر معهم انطلاقاً من مسؤوليتنا القومية ومن حبنا لهم.

إن الحريري الذي خدم وطنه بكل همة وإخلاص في حياته، يمكن أن يكون من ينطبق عليهم قول الشاعر:

علو في الحياة وفي الممات

بحق أنت إحدى المعجزات

فيساهم أنصاره ومحبوه والمؤمنون به، مع كل اللبنانيين الذين أثق في أن جميعهم حريصون على وطنهم وعلى أمنه وسلامته، في إيجاد حل يحفظهم جميعاً.

ولقد سبق أن كتبت مشيراً إلى حلول ممكنة، فرماني البعض بالإفراط في المثالية والتفاؤل، ووصفني البعض بعدم الإطلاع الكافي على الأوضاع في لبنان. ولكني كنت دائماً أنطلق من اقتناعي بأنه بعد أن يرى اللبنانيون عمق الهوة التي اقتيدوا إلى حافتها، وبعد أن يدركوا الأخطار التي يواجهونها كلهم وليس فقط فئة منهم، فإنهم قادرون على الوصول إلى حل، خاصة وأن أهدافاً كانت مطلوبة قد تحققت. فقد استطاعت المعارضة أن تحقق هدفها الأول وهو انسحاب القوات السورية مع كل الأجهزة التابعة لها، واستطاعت أن تحصل على موافقة على إعطاء طابع دولي -وبالتالي تطمئن إلى حياده ـ للتحقيق في جريمة اغتيال الحريري.

أما الحكم فقد استطاع أن يحصل على عدول عن الإصرار على ضرورة تخلي رئيس الجمهورية ـ الذي أثار تجديد فترة رئاسته الأزمة ـ عن منصبه. كما أن أنصار سوريا استطاعوا أن يحصلوا من الذين طالبوا بالانسحاب السوري على تأكيد برغبتهم في الحفاظ على العلاقات الوثيقة مع الدولة الشقيقة على أسس سليمة.

وقد أمكن التوصل إلى تلك النتائج بسبب الحكمة التي أظهرتها دمشق عندما وجدت نفسها في موقف صعب، والحكمة التي تصرفت بها عناصر لبنانية كثيرة استطاعت أن تكبح جماح غضبها، وأن تتغلب على بعض مخاوفها وتنحاز إلى لبنان الحر المستقل المتحد الذي يعيش في محيط لا يقطع خيوطه معه، ولكن لا تربطه به قيود تنعكس بالسالب عليها.

فإذا كان الأمر كذلك فما الذي بقي؟ سؤال يحتاج للرد عليه أن تهدأ النفوس. وأتصور أن الخطوة الأولى لتهدئة النفوس هي أن يقترن تشكيل فريق التحقيق الدولي بأمرين أولهما التأكيد على أن هذا الفريق لا يتحرك خارج السيادة اللبنانية ولا يلغي الأجهزة اللبنانية المعنية التي يجب أن يتعاون معها وتتعاون معه، إذ أنه من غير المنطقي أن من تظاهروا ضد الوجود العسكري السوري للمطالبة بالسيادة، يتنازلون عن تلك السيادة لآخرين. وثانيهما أن يقترن بدء التحقيق الجاد بوقف رؤساء أجهزة الأمن جميعهم عن العمل مؤقتاً إلى أن تثبت إدانتهم أو براءتهم، علماً بأن بعضهم مدان الآن على الأقل بالإهمال والتقصير إذا كنا لا نريد الإفراط في إساءة الظن بهم.

وبعد ذلك يجب التحرك بسرعة نحو إجراء الانتخابات النيابية في موعدها. وهذا يقتضي تشكيل حكومة أتصور أنه من المهم أن تكون محايدة وربما من الأفضل أن تكون مصغرة وأن تقتصر مهمتها على إقرار قانون الانتخاب الجديد ثم الإشراف على إجراء تلك الانتخابات في جو من النزاهة والهدوء تتعاهد جميع الأطراف على المساهمة في تحقيقه.

قد أكون مفرطاً في التفاؤل، ولكني، أمانة، لا أظن ذلك، إذ أنني أثق في أن اللبنانيين جميعاً الذين عانوا ما عانوا من الحرب الأهلية، والذين استطاعوا بعد 15 عاماً من نشوبها ومعاونة الأشقاء وبالاستعانة بالحكمة أن يضعوا حداً لها وأن يسيروا خطوات نحو إعادة البناء السياسي والنفسي والمادي، قادرون على أن يكرروا ذلك النجاح وأن يبنوه على أسس أكثر رسوخاً وأكثر دواماً ويخرجوا من سجن الأزمة الذي وجدوا أنفسهم فيه.

وأعتقد أن تسوية الأوضاع في لبنان بما يمهد لتوافق وطني من شأنه أن يجنب كلا من سوريا ولبنان مخاطر تدخلات خارجية تحاول أن تخفي حقيقة نواياها بارتداء مسوح الحريصين على الشعبين.

كما أني أثق في أن إجراء الانتخابات في جو هادئ ثم تشكيل حكومة تعكس الإرادة الشعبية، سوف يتيح الفرصة للجهود لاستئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني وصولاً إلى استرداد أراضي البلدين المحتلة بالتوازي مع المفاوضات على المسار الفلسطيني.

وتبقى مسألتان تشغلان بال اللبنانيين والمجتمع الدولي:

الأولى تتعلق بما يسمى مسألة التوطين ورفضه، وليس اللبنانيون وحدهم الذين يرفضون التوطين لأن المطلب العربي الأساسي هو تأكيد مبدأ عودة الفلسطينيين إلى أرض فلسطين وفقاً للقرار 194 بالأسلوب الذي تتفق عليه الأطراف المعنية جميعها وبما لا يخالف الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة ومبادئ العدالة. ولذلك فمن المهم أن يطمئن اللبنانيون إلى أن احتمال التوطين غير وارد لأسباب قانونية وإنسانية ولوجود إدراك كامل باستحالة فرضه سواء على اللبنانيين أو الفلسطينيين.

والثانية هي ما نص عليه قرار 1559 بشأن حزب الله. والقرار خاطئ من نواح كثيرة قانونية وسياسية، ومن أهمها أنه بينما انطلق من رفض الوجود العسكري السوري دون اعتبار أنه كان مرتبطاً في جزء منه بموضوع الأراضي السورية واللبنانية المحتلة، فإنه عاد فخلط بين الأمرين مطالباً بنزع سلاح حزب الله فربط الانسحاب السوري بإنهاء المقاومة المسلحة أو حتى احتمالاتها بتناول الموضوعين في قرار واحد.

ومن المهم أن نؤكد هنا أن حزب الله في وجه من وجوهه حركة مقاومة مشروعة لم تلجأ إلى أساليب ما يسمى بالإرهاب ويعرف بأنه التعرض للمدنيين، ولكنها كانت تناضل ضد الجيش المحتل للأرض العربية. أما في وجه آخر فهي حزب سياسي شرعي له تمثيل في البرلمان. وبالتالي فإن تناول القرار المشار إليه له لم يكن مبرراً ولا موفقاً. وقد أجمعت جميع الأطراف اللبنانية على رفض المساس بحزب الله، وهو أمر يجب أن يؤخذ في الاعتبار، لأن مجلس الأمن لا يمكن أن يطالب بوقف المقاومة التي تلتزم بما يضمن لها الشرعية طالما أن المجلس ذاته لم يستطع أن يزيل مبررات المقاومة وهي الاحتلال بصرف النظر عن الخلاف حول تبعية مزارع شبعا، وهو خلاف حسمته الدولتان المعنيتان أياً كان تاريخ احتلال تلك المزارع.

إن الظروف أصبحت الآن تتيح وتفرض على اللبنانيين أن يتكاتفوا حتى يستأنفوا مسيرة بناء بلادهم الحرة المستقلة تؤكد انتماءها إلى أمتها العربية وحفاظها على علاقات ودية مع جيرانها ورفضها أية هيمنة خارجية.

وما زلت أرى أن على الجامعة العربية أن تسعى، وأنه من المهم للبنان وسوريا أن تقبلا تلك المساعي الأخوية التي لو أتيحت وأتيح لها المجال لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه عندما اقترب الجميع من حافة خطر لا يبقي ولا يذر، والتي تستطيع أن تسهم في دفع الأمور نحو الحل الذي يسمح باستئناف مسيرة البناء التي كانت الشغل الشاغل للشهيد الحريري.

* وزير خارجية مصر السابق