سلم على السماء!

TT

ـ يا بحرين.. يا بحرين.. كلموا..

ـ نكلم مين؟

..واحد من السماء!!

وكنت أنا هذا الواحد من السماء، ففي إحدى ليالي يوليو من أحد عشر عاما وقفت على سلم خشبي متواضع في «مرصد القطامية»، أشاهد سقوط المذنب «شوماكر ـ ليفي9» على كوكب المشتري. وكنت اخرج رأسي من حين إلي حين وأنظر إلى السماء خارج عدسة التلسكوب..

فقد كان الكوكب قريبا جدا أكاد ألمسه بيدي.. مع أن المسافة ستمائة مليون كيلومتر.. وكنت أقول : ايوه.. واحد.. اثنين..

فقد كان صديقي على الخط الهاتفي في البحرين، يوسف الشيراوي، وزير الصناعة. وقلت له إنني لم أر من أقمار كوكب المشتري الثلاثين سوي اربعة.. المسماة أقمار جاليلو التي رآها في أوائل القرن السابع عشر..

وليس بين أصدقائي أحد مثل يوسف الشيراوي، فقد كان الاستماع إليه ومناقشته متعة حقيقية.. فهو واسع الأفق الأدبي والسياسي والعلمي أيضا.. وكان اهتمامنا الخاص هو علوم الفلك.. والجديد في ذلك.. وكنا نتنافس في حب عالم الفلك الأميركي كارل ساجان، صاحب موسوعة «كوزموس» عن المعلومات الفلكية، فهو متحدث لطيف ظريف وأسلوبه سهل جدا. وطريقته في الكلام ساحرة..

وكان الجلوس مع يوسف الشيراوي يضايق الضيوف، فلا نكاد نلتقي حتى ننزوي بعيدا، وهات الكلام في الفلسفة والأدب وخصوصا في الفلك.. ويوسف الشيراوي.. هو الذي شجعني على شراء تلسكوب بعشرات الألوف من الجنيهات لكي أشاهد أنا وحدي نجوم السماء. وكنت أتلقى خريطة يوميا للقبة السماوية وحركة كوكب الأرض بعدا وقربا، وحركة الكواكب أيضا..

وخريطة شهر أبريل تقول إن كوكب المشتري سوف يكون أكثر لمعانا من كل الكواكب.. وكوكب المشتري كله من الغاز الذي يزداد كثافة كلما هبطنا إلى منتصفه. ودرجة حرارته تصل إلى عشرين ألف مئوية.. والكوكب يتسع لأكثر من ألف ومائتي كرة أرضية.. وبسبب بعده عن الشمس فإن أقماره وتوابعه التي تبلغ ثلاثة وستين، مغطاة بالجليد..

وفي إحدى سهراتنا الجميلة في القاهرة، وكانت تضم عددا من العلماء المصريين وأساتذة الجامعات، تسللنا إلي غرفة وجلسنا نتناقش، وظن بعض هؤلاء العلماء الخبثاء أننا نتحدث في الغراميات، فوضعوا لنا ميكرفونا لم نره.. ثم كانت المفاجأة.. أسمعونا التسجيل.. وكان كلاما عن آخر أخبار السماء..

ولكن فرحتي لم تتم مع الاسف.. فالمنطقة التي نسكنها بالقرب من الهرم لم تعد صالحة للنظر إلى السماء.. فالسماء لم تعد صافية، وإنما مليئة بالغيوم والسحب.. وعندما تصفو فإن أضواء البيوت المجاورة تحول بيني وبين الرؤية.. حتى مكان «مرصد القطامية» لم يعد مناسبا..

فالضوضاء والأضواء كلها أفسدت الرؤية.. ولم أر أجمل منظر السماء في صحارى السعودية وفي جزر هاواي.. فمنظر النجوم في السماء الصافية رائع ومروع أيضا.. ما هذا الجمال والجلال.. ما كل هذه البريق وما المعني.. وما الحكمة وراء كل ذلك.. وأين نحن مما خلق الله؟!

ولا أي حاجة. والنظر إلى السماء كأنه صلاة إن لم يكن صلاة.. سبحان الله، ما أعظم شأنه وأبلغ كلمته.. إن نظرة إلى السماء في ليلة صافية تجعل الرأس يدور، يدوخ..

وبالأمس عاودت النظر إلى السماء لأرى كوكب المشتري، الذي يبدو أكثر وضوحا من كل الكواكب.. بل انه ملك الكواكب.. بل هو المنظومة الشمسية الصغيرة.. صحيح انه ليس نجما ولكنه الكوكب الذي يدور حوله أكثر من ستين قمرا وحجرا..

ولما طويت التلسكوب بأجهزته وموتوراته وعدساته ووضعتها في الصناديق، أحسست كأنني دفنته ودفنت معه متعة غامرة.. وكان يجب أن أفعل ذلك عندما توفي يوسف الشيراوي.. فقد انحسرت عني أجمل متعة وحلم شخصي.. ولن أجد سببا لأن أطلب البحرين، فلم أعد في السماء.. وإنما عدت إلي الأرض عندما عاد يوسف الشيراوي إلى بطن الأرض.. يرحمه الله..