ولكن هل أمريكا وإسرائيل مع السلام فعلا؟

TT

بتاريخ الثالث من الشهر الجاري جدد رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع دعوته للولايات المتحدة باتخاذ موقف واضح إزاء ممارسات إسرائيل الاستيطانية، وسياستها لضم القدس المحتلة، واستمرار العمل بإقامة الجدار العازل على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، ليأتي الرد الأمريكي المباشر مؤكداً للفلسطينيين على موقف الولايات المتحدة من «خارطة الطريق» في عدم توسيع المستوطنات، والتي يشكل أمر الالتزام ببنودها كرت الضغط الذي ينوي الرئيس الأمريكي جورج بوش طرحه في اللقاء المزمع له مع رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، هذا الأسبوع في واشنطن.

يقول نابليون: «من يسيطر في المعركة على تقاطع الطرق، يصبح سيد الأرض»، وعليه، لا يكون وارداً اعتبار أن هندسة بناء المستوطنات قد جاءت من قبيل الصدفة، فقد روعي عند إنشائها وقوعها على مفارق الطرقات، والمرتفعات المطلة على التجمعات الفلسطينية، أي الانتشار مع التركّز في مناطق بعينها، لتجزئة الأراضي وإعاقة التواصل الجغرافي بين الفلسطينيين، أمّا مسألة المستوطنات الزراعية فهي زراعة استيطانية لا علاقة لها بالاستثمار الزراعي، فالموقع وليس نوع التربة هو العنصر الأول في الاختيار.

صحيح أن الاستيطان مرتبط أساساً بالتوسع الكائن في سياسية الاحلال بعد عامي 48 و67، إلاّ أن حدود الدولة الإسرائيلية في رأي بن جوريون غير ثابتة، وإنما متغيرة حسب الظروف والمراحل الزمنية المختلفة، وما اصطلح على تسميته بـ«الحدود الطبيعية» ما هو سوى إعادة نظر الدولة الإسرائيلية ـ متى شاءت ـ في تعيين حدودها الطبيعية واستبدالها بحدود جديدة لها عند الضرورة، فالإجماع إذن بشأن مبدأ التوسع لا اختلاف عليه، وإنما هما الوسيلة والشكل.

لذلك حينما جاءت اتفاقية أوسلو عام 1993 وفرضت حدوداً على الدولة الإسرائيلية، وكان أمراً يحدث لأول مرة في تاريخها، وجدنا عدداً كبيراً من الإسرائيليين، والمحسوبين على اليمين الديني والعلماني، يرفضون بصورة قاطعة التنازل عن أي شبر ضمن حدود أرض إسرائيل التاريخية. فعمليتا السلام والتسليم تعني الانتقال بالأيديولوجية الصهيونية القائمة على التوسع الإقليمي إلى الانكماش الإقليمي، ثم التحول في النظرة الدولية من ممثل الحضارة الغربية القوي والأوحد في الشرق الأوسط، إلى مجرد دولة ضمن منظومة دول أخرى في المنطقة، فهل هذه هي رغبة الشعب الإسرائيلي واقتناعه! واقعياً ومن المنظور التحليلي، نقول إن معضلة السلام ليست في حزب العمل أو الليكود أو غيرهما، وإنما في الجسد الإسرائيلي ككل، وهل هو مع السلام الحقيقي وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، أم دون ذلك!

فالمرحلة الأولى من «خارطة الطريق» التي وضعتها اللجنة الرباعية، وتدعو فيها إسرائيل إلى تجميد جميع أعمالها التوسعية ببناء المستوطنات، مع إزالة النقاط الاستيطانية العشوائية التي تم نصبها منذ انتخاب رئيس الوزراء شارون في شهر مارس (آذار) 2001، تضيّق الخناق أكثر فأكثر على شارون للوفاء بالتزامه الذي قطعه للرئيس بوش بتنفيذ خطة فك الارتباط القاضية بإخلاء كافة المستوطنات في قطاع غزة وأربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية، ولكن من جهة أخرى، فإن فك هذا الارتباط وحتى اليوم، إنما يواجه بكل حزم وتصعيد، سواء على مستوى الرأي العام في أوساط المستوطنين، أو انصار اليمين المتطرف الإسرائيلي، ومما زاد من تأزم الوضع إسقاط الكنيست لمشروع الاستيفاء الشعبي، الذي يراه المراقب الإسرائيلي أنه تصويت إلى جانب الحرب الأهلية القادمة، مع سفك الدماء والاغتيال السياسي في إسرائيل.

المستوطنات الإسرائيلية البالغ عددها في الضفة الغربية وقطاع غزة 185 مستوطنة، يعتبرها السواد الأعظم من المجتمع الدولي خرقاً للقانون الدولي، وللفقرة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة، بدليل تبني مجلس الأمن للقرار رقم 448 في مارس 1979 الذي ينص على عدم مشروعيتها من الناحية القانونية، فهل التفت إلى هذا القرار أحد! والجدار الفاصل الذي شيدته إسرائيل فأصدرت محكمة العدل الدولية بتاريخ 9/7/2004 فتواها القاضية بعدم قانونية الجدار الذي بني على أراض محتلة، لم تتخذ إجراءات إسرائيلية لتعديل مساره بعيداً عن الأراضي الفلسطينية، مع العلم أن المجلس الاستيطاني نفسه ضد قيام مثل هذا السور، وإن كان لأسباب مختلفة تعود في أصولها إلى عقائدية فكرية تزعم بأن إسرائيل هي أرض الله الممنوحة للشعب اليهودي، الذي يجب عليه التواجد في كامل مناطقها وإقامة شعائره الدينية لتخليصها من الدنس!

على أية حال، حين تأتي التأكيدات الأمريكية في وقت يشدّد فيه شارون على المضي قدماً في توسيع مستوطنة معاليه أدوميم بالقرب من القدس، ويعلن بأن حكومته لا تعتزم هدم بيوت المستوطنين الذين سيتم إجلاؤهم من قطاع غزة في إطار خطة الانسحاب المقررة في شهر يوليو (تموز) القادم، ليلحق تصريحه بتقديم الضمانات للمتشددين الإسرائيليين باستبعاده أي انسحاب من مدينة الخليل في جنوب الضفة الغربية، لأنها ـ كما يرى ـ الورقة الإستراتيجية التي يجب على إسرائيل الاحتفاظ بها، ثم نقرأ هذه التناقضات في ضوء تطلعات اليمين المسيحي الأمريكي المؤمن بعودة المسيح المبكرة من خلال التعجيل بإعادة بناء هيكل سليمان، واحتفاظ إسرائيل بالقدس والضفة الغربية كأرض للميعاد، ففي هذه الحالة، ونحن المعنيون العرب بما يجري، من نصدّق ومن نكذّب! أم أن الأمر لا يعدو كونه استهلاكا إعلاميا، ولتمضوا في استيطانكم وسيطرتكم على الأرض والموارد، لا أقول إلاّ أن المرحلة الآتية ونوع التضحيات الإسرائيلية ستؤكدان للعالم هل أمريكا وإسرائيل جادتان بالفعل في دعم محادثات السلام التي استؤنفت من جديد، أم كالعادة؟