أيام فاتت

TT

«اللمبجي» من الالقاب الحرفية المتداولة في العراق، ويشير الى صناعة «اللمبة» (المصباح النفطي). وكان الطلب عليها محدودا، فما فائدة اللمبة لشعب أكثره أميون؟ وربما كان ذلك سبب الفقر الذي عاشه زميلي الرسام فخري اللمبجي. كان والده يقيت أسرته من صنع اللمبات والفوانيس وبيعها من دكانه المتواضع في سوق الغزل.

ازدادت العائلة فقرا بدخول الكهرباء وانخفاض الطلب على الفوانيس.

بدأت شركة الكهرباء بمد الاسلاك وأسرع الاولاد لتحذير ابيهم: «بابا شوف لك صنعة ثانية». سألهم أبو فخري عن هذا الشيء الدخيل الذي يسمونه الكهرباء. فشرحوه له حسب فهمهم بأنه شرارة يقدحونها في معامل الشالجية وتمشي تركض عبر الأسلاك وتضيء بيت كل من يدفع خمس روبيات شهريا للشركة. اجابهم الوالد «روحوا اشتروا بعقلكم حلاوة. أكو شرارة تمشي بالأسلاك؟».

واصل عمله في صنع المزيد من اللمبات بجد ونشاط، في حين واصلت الشركة نصب الأعمدة والمحولات ومد الأسلاك حتى وصلت الشورجة. وتقدمت نحو سوق الغزل. حدثوه وقالوا: «يا بابا الكهرباء وصل السوق، وحمدي العلوجي، أدخل الكهرباء لبيته، بس تعال شوف وعاين». ولكن الرجل رفض الذهاب والمعاينة، قال: «هذا ابو حسن، عقله صغير ويسمع كلام مرته. يومين وتخرب لمبة الشركة ويقعدون بالظلمة ويجون يتوسلون على فانوس».

أخيرا توقف ابو فخري عن الصلاة في مسجد سوق الغزل بعد ان سمع انهم أضاؤوه بالكهرباء. توقف حتى عن الخروج ليلا ويرى الازقة مضاءة بالكهرباء. وبعد ان أوصلوا القوة لكل الدكاكين والدور المجاورة، أذعن لضغوط الاسرة واستدعى الشركة لمد بيته ايضا بالكهرباء. جاء العمال فثقبوا الجدران ومدوا الماسورات وأوصلوا الأسلاك وربطوا البيت بالشبكة العامة.

نعم، دخلت القوة بيت صانع اللمبات، نادوا على ابيهم في الدكان ليحضر ويرى. اشاروا الى هذه الكرات الزجاجية المعلقة من السقف. نظر اليها وتساءل: «يعني هذي شلون راح تشتعل بدون نفط؟».

أشاروا الى أحد الأزرار المركبة على الجدار. «تكبس على هذا الزر فتنير البيت، وعلى ذاك الزر فتنير المطبخ».

مشى العم أبو فخري نحو احدهما غير مصدق لما سمع. مد يده المرتجفة الى الزر بتردد وقلق. كبس عليه، واذا بالبيت كله يتحول من ليل الى نهار. التفت الاوسطة اللمبجي الى ولده وقال له: «ابني فخري، روح اقفل الدكان وجيب لي المفتاح».

ذهب صديقي فخري الى الدكان، قفله وعاد وسلم المفتاح الى والده. وبقدر ما اعلم، وضع المفتاح في جيبه وتركه هناك دون ان يستعمله ولو مرة واحدة. بقي المفتاح في جيبه وبقي الدكان مغلقا بكل ما فيه من عدة وفوانيس ولمبات بائرة حتى توفاه الله في اجله المحتوم وشيع في مسجد سوق الغزل المضاء بالكهرباء. سار وراء جنازته سائر القوم، ولكن لم يكن بينهم المدير الانجليزي لشركة الكهرباء.