عرس تشارلز وكاميلا.. انقلاب على ديكتاتورية الجمال وانتصار للنساء!

TT

ما هي دلالات زواج ولي عهد بريطانيا هذا الأسبوع بالسيدة كاميلا باركر ـ بولز؟ أهو زواج ملكي آخر أم أنه تم لإسكات الصحف الفضائحية التي كانت تقتات كالضباع على الأخبار وشبه الأخبار والأكاذيب المنسوجة حول الاثنين؟ أن يكون هذا أو ذاك، تلك ليست مسألة مهمة. وليس مهماً أيضاً الوجه الرومانسي المتمثل في أن الزواج يظهر للنور علاقة إنسانين ارتبطا لـ34 عاماً بعلاقة غرامية كانت تحيا في الظلام. ما هو الخاص في هذا الزواج إذن؟

ظهر هذا الزواج باهتاً مقارنة بالضجيج والفخامة اللذين اتصف بهما الزواج الأول للأمير تشارلز بالحسناء الراحلة ديانا. ولعل أكثر جوانب الانطفاء في الاحتفال الثاني هو أن الزوجة لم تحز على أي من القسمات الجميلة للزوجة الأولى. بل إن أكثر الناس يرى في السيدة كاميلا التجسيد الكامل للدمامة.

لكن الجميل في الحدث هو بالضبط هذه الدمامة المزعومة. مزعومة لأن الأمير الانكليزي، وهو صاحب الشأن، لم يجد في امرأته أي دمامة. فلم يكن مضطراً ليتزوجها لمالها أو لقبها أو حسبها. تزوجها الرجل لأنه مغرم بها، وككل مغرم فهو يرى فيها جاذبية لا يراها في سائر النساء.

وأهم ما في الحدث أنه يتحدى المقاييس الشائعة للجمال التي انتشرت في العالم كله حتى صارت ديانة عالمية تخترق الجغرافيا والأعراق والثقافات الشعبية كلها. كلنا واقعون أسرى نظام جمالي يؤله الوجه النسائي الجميل، والجسد النحيف المتناسق. معيار تلهث النساء وراء تحقيقه بالمساحيق والفساتين الغالية وكذلك عبر العمليات الجراحية ـ رغم مخاطرها ـ حتى بات متعذراً اليوم أن تظهر مغنية أو راقصة أو ممثلة من دون أن تكون قد مرت على مبضع الجراح الذي أزال عنها شامة أو تجاعيد، أو أضاف لها أنفاً أكثر تناسقاً أو شفاهاً أشد اكتنازاً.

وويل للمرأة التي تسقط في بورصة الجمال، سواء كان جمالاً فطرت عليه أو ساعدها جيش الحلاقين والجراحين والغذائيين ومدربي الرياضة عليه! امرأة كهذه تعيش محطمة القلب مهزومة في معركة لا ترحم. وفي النهاية بحسب النظام الجمالي السائد هذا فكل النساء يسقطن مهزومات مع تقدم العمر بهن: كلهن، هكذا يحاولون إيهامنا، سيمسين دميمات.

المدهش في الزواج البريطاني أن الأمير أقدم على شيء كثير من الناس سيحجمون عن الإقدام عليه. فهو الكهل لم يفتش عن صبية تعيد شبابه، بل كهلة مثله في خريف العمر، تفتقد، أيضاً مثله، لريعان شباب ولى. لكن الأمر لم يهم الأمير. فمن الواضح أنه أراد باقترانه بهذه المرأة شيئاً غير الجمال الشكلي، حتى وإن جهلنا نحن ما هو بالضبط هذا الشيء، شيء ربما يكون أجمل من «الجمال» نفسه. وهنا بيت القصيد.

بمقابل الأمير الانكليزي كان أميرنا العربي امرؤ القيس، الملك الضليل، يتغزل بامرأته لأن أساورها لا تحدث أصواتاً بسبب سمنتها «صم الأساور». والذي أشهر الخنساء كان شعرها ووفائها لأخيها. وما خلّد «ألف ليلة وليلة» لم يكن جمال شهرزاد بل ذكاؤها وموهبتها النادرة على سرد الحكايات.

لا شك أن تراثنا احتوى على ركام حسي كبير اختزل المرأة في شكلها، وقد ترافق ذلك مع اقتصاد سياسي معين لاستعباد النساء كإماء وجوار وحريم بحثاً عن العنصر نفسه الذي يختزله الاقتصاد السياسي الراهن في الدعاية والإعلان والسينما والتلفزيون والفيديو كليب والانترنت. نساء دمى نلعب ونلهو بهن كرجال، ثم نعرض عنهن لنلتفت لمهامنا كرجال في نظام القوة والإنتاج الذي نستمد منهما سطوتنا على النساء ـ الدمى.

وفي هذا النظام هناك غياب شبه تام للنساء العربيات. لا رئيسة جمهورية، لا رئيسة وزراء، لا الآن ولا في الماضي. وبرغم الرمزية الكبيرة لهذه المواقع المتقدمة وحرمان النساء منها إلا أننا لا نرى تعويضاً لهن في مواقع أخرى... اللهم إلا في شأن واحد: الترفيه سواء المنزلي أو الفني. نحن نسمح للمرأة أن تكون على أغلفة المجلات، وكوجه تلفزيوني، وكنادلة في فندق وبائعة في متجر.. مباح ومحبذ أن تسوّق شيئاً مستخدمة وجهها أو حضورها كأنثى في مختلف الظروف والمواقع، أما عقلها وشخصيتها وحضورها الإنساني فشيء لا قيمة كبيرة له، وعلى الأخص لا قيمة للحضور السياسي للمرأة.

الإقصاء السياسي للمرأة ليس هو المشكلة. فأساساً الجميع مقصى، رجالاً ونساء. المشكلة أن إقصاء النساء يكتسب شكلاً شعبوياً، فإضافة للتمييز الذي تمارسه الدولة بحقها يقوم المجتمع أيضاً بمصادرة دورها السياسي تحت مزاعم دينية وغيرها. وما الجهود المستميتة التي يبذلها الإسلاميون في الكويت إلا نموذج صريح لهذا الموقف المعادي للنساء الذي ينتشر على مدى واسع يتخطى العقائديين الدينيين إلى فئات أكبر منهم بكثير.

هناك احتقار عميق للنساء في ثقافتنا الشعبية. وبرغم تحقيقهن باستمرار لدرجات أعلى على مقاعد الدراسة، وبرغم تميزهن بأخلاق عمل أكثر جلداً والتزاماً في مواقع العمل، إلا أن كثيرا منا يحتقر نساءنا. وهذا الاحتقار نتشارك فيه جميعاً وبغض النظر عن هوياتنا العقائدية أو الثقافية أو الجغرافية. وكثيراً ما يتحول الاحتقار إلى عنف منزلي. الأب والأخ يمد يده على الفتاة لإرغامها على الزواج بمن لا تريد، أو لمنعها من الاقتران بمن تريد. ويتواصل العنف في منزل الزوجية. وجزء ليس يسيرا من الثقافة الشعبية يجسد النساء بأحوال سلبية، كشيطان غواية، أو كمنغصة على الزوج عيشه، أو كخائنة أو كغبية.

هناك حاجة ماسة لسياسة حكومية تنصف النساء في مختلف الدول العربية. لكن جهود تحرير المرأة لن تعطي نتائجها إلا بمهاجمة أساس التمييز ضدها. هذا الاختزال لآدميتها لتكون مجرد دمية للعب. نحتاج ثورة نسائية على غرار حركة «كفاية» في مصر وحركة الاعتصام في ساحة الشهداء في بيروت المتواصلة لشهرين، ثورة تقف في وجه الإسلاميين ضيقي الأفق الذين يريدون أن يدفنوا النساء في أسرّة المنازل، كما هي في وجه تجّار الجسد والابتذال الحسي في وسائل الترفيه والإعلام. وثورة كهذه سوف لن تنطلق إلا من الوعي الحاد بحجم الإهانة التي تعيشها بناتنا وأخواتنا وزوجاتنا وأمهاتنا وجداتنا منذ مئات السنين.