ماذا قال نجيب سرور في ملك الشحاتين؟

TT

في الموسم المسرحي 1970/1971، قدم مسرح البالون بالقاهرة عرض مسرحية نجيب سرور «ملك الشحاتين»، بإخراج جلال الشرقاوي. ورغم التشابه الظاهري بين نص نجيب سرور، ونص «أوبرا الثلاثة بنسات» لبريخت، التي أخذها عن مسرحية إنجليزية قديمة اسمها «أوبرا الشحاتين» لجون جاي، إلا أن مسرحية نجيب سرور تختلف عنها اختلافا بينا، في مسار الحدوته، وفي عرض وتوظيف الشخصيات الأساسية للمسرحية، وفي مدلولات الحوار السائد، وإيحاءات المونولوجات الشعرية، ثم في المضمون النهائي للعمل الذي أراد المؤلف لنا أن نخرج به.

في مسرحيته «آه يا ليل يا قمر»، يحدد نجيب سرور ما تعنيه شخصية «الإنجليزي» في مسرحه، حين يقول أحد أبطاله: «اللي ياكل حقنا يبقى إنجليزي، حتى لو كان دمه مصري».

«الإنجليزي» في تاريخنا المصري الحديث كان هو المحتل الباغي الذي يمارس سلب الرزق وسلطة القهر بالظلم والعدوان. ومن ثم، فحيثما ظهرت دلائل وأفعال السطوة والظلم، واتحدت الأهداف والمصلحة مع المحتل، لا تعود الملامح القومية سوى مجرد أقنعة للعدو الذي ما فتئ يسعى ويتخفى ليتمكن من محاصرة الشعوب المكافحة وقهرها من بين صفوفها ومن داخل جسمها. الحاكم الدكتاتور الطاغية، والإقطاعي، والخائن، والعميل، كلهم لهم عند نجيب سرور مرادف «إنجليزي» بمعنى المحتل، العدو، القوة الأجنبية الغازية. ويتأكد لنا هذا التحديد لـ «الإنجليزي» عند نجيب سرور حين يضع في نصه «ملك الشحاتين» شخصية «جورج» الإنجليزي الذي يكسب من وراء فساد قطبي المسرحية «أبو دراع ملك الشحاتين» و«أبو مطوة زعيم الحرامية». «أبو دراع» و«أبو مطوة» مركزا قوة ـ من أهل البلاد ـ يتصارعان حول المنفعة الذاتية والتسلط المستمد على الدوام من مساندة «جورج» المحتل، وهما بذلك، لأنهما من أولاد البلد، أصبحا تابعين لجورج: ينفذان أغراضه، ويلذ له اللهو واللعب بهما مع الاستفادة المستمرة من وراء رغبة كل منهما الإطاحة بالآخر والانتصار عليه ولو بالتنافس في دفع الرشاوى السخية للسيد «جورج».

نعرف أن «أبو دراع» يبني دولته بالاستغلال الذي يمارسه بتجارة الفقر، ونعرف أن «أبو مطوة» يحكم سيطرته بالرعب الذي يشيعه. ويصبح النزاع بين «الاستغلال» و«الرعب» وأيهما يظفر بالمعْلمة على البشر، والحكم في هذا النزاع هو «جورج» الذي يرجح أحد الجانبين وفقا لكمية ما يقبضه منهما، وهكذا يكون من المنطقي أن تعلو الصرخة الثائرة في وجه «الرعب» و«الاستغلال» و«المحتل»، هؤلاء «الإنجليز» جميعا. «لحد إمتى ح يفضلوا المساجين مصريين والسجانة إنجليز؟».

يقدم نجيب سرور شخصيتي «أبو دراع» و«أبو مطوة» تقديما مركبا: كلاهما يلعب شخصيته الفاسدة، ويدينها في الوقت نفسه ويقوم بدور «المرشد» عن فساده و«المنبه» الموضح لأوجه التلاعب في منطقه الملتوي وطيبته الكاذبة المخادعة. غير أننا نجد أن المؤلف اختص «أبو مطوة» ـ زعيم الحرامية ـ بتوظيف إضافي فيعطبه أحيانا «لسانه» واحتجاجه، فنجد «لأبو مطوة» مونولوجاته المفعمة بالسخط والثورة على الفساد والرعب، المتسبب هو شخصيا بجزء مباشر فيه، إلى أن يصل، بعد كلمات متدافعة متضاربة هستيرية منفعلة ومتهكمة، تبنى بتراكمها المهوش والمشوش عن عمد، حالة ألم محض. نحسه غائراً في القلب. بين قطبي النزاع «أبو دراع» و«أبو مطوة»، هناك «ألماظ»، ابنة الأول التي خطفها الثاني ليتزوجها. «ألماظ» ابنة «الاستغلال» وحبيبة «الرعب»، لكنها مع ذلك هي عند المؤلف خيط التحول إلى الأمل، كيف يكون ذلك؟ لو أننا نظرنا إلى «أبو دراع/ الاستغلال» لوجدنا أنه قرين «الغيبوبة»، فزوجته «نفوسة» لا تفيق من الخمر، وهي كذلك طرف في شركة للتجارة في الرقيق الأبيض مع «لواحظ» صاحبة بيت للدعارة والزوجة الأولى لـ«أبو مطوة/ الرعب»، فتصبح الدائرة المتحدة، كما تصورها المسرحية، هكذا: «الاستغلال»، «الغيبوبة أو فقدان الوعي»، «الدعارة»، «الرعب»: هي أصابع «جورج/ الاحتلال» المكتملة المطبقة على عنق الشعب المسجون. حين تتجاذب الأحداث «ألماظ» وترى حدة التناحر بين والدها وزوجها تكتشف رويدا رويدا أطراف الدائرة وترى بوضوح يقظ أن قبضة «جورج» القوية الضاغطة على عنق بلادها، ليست سوى تجميع للاصابع المنحرفة من أهلها، وتعلو أغنية المساجين لتملأ أذني «ألماظ» بالوعي والتطهير المتعاظم: «يا حبسه الزنازين، يا ليل يا ليل ياعين، يا حبس فيك مظاليم، تلفيق وكذب ف كذب، يا لابسين الجوانتي إديكو فيها الدم، هي استغماية ولا دي التلات ورقات؟». ويكون متوقعا أن تتناهض «ألماظ» ابنة الدائرة المظلمة، وتتعاون مع المظلومين وتغني شعارها: «البادي بالعدوان ظالم، والظالم بالعدوان بادي، والمظلوم أظلم لو سالم، أو سلم وما خدش التار». وحين يعود النزاع بين «أبو دراع» و«أبو مطوة»، يكون الرد الحاسم: «لا أبو مطوة ينفع ولا أبو دراع!».