الأسد حارب عرفات بالشيعة ثم أنقذهم من الدروز

TT

غبتُ عن الحديث عن لبنان أسبوعا. لكن لبنان صالح للحديث عنه باستمرار. فهو حالة سريرية صعبة ومزمنة. أطباؤه دائما من الخارج، وممرضوه دائما ساسة منه وفيه. وكلهم داؤه وكلهم دواؤه.

انسحب «الشرطي السوري» من لبنان. انتهى دوره. أميركا تسعى الآن لسحبه أيضا من سورية! لكن حبل الصرة الذي يربط التوأمين اللبناني والسوري لم ينقطع ولن ينقطع رضي الأطباء أو لم يرضوا: ها هو المرشح «السوري» عمر كرامي يخفق في تشكيل الحكومة. لدهشة أميركا، فقد جاء مرشح تقبل به سورية والمعارضة لتشكيلها. نجيب ميقاتي منافسٌ نجيب لكرامي في معقله في طرابلس، لكنه صديق حميم لسورية أكثر منه. مع ذلك، فـ «الحرفة» السياسية اللبنانية تقضي اليوم بأن يكون رئيس الحكومة على مسافة من «الأهل» في الشام.

ما أحرى الحديث عن لبنان وهو يحتفل هذه الأيام بذكرى مرور ثلاثين عاما على حربه الأهلية، وهي أيضا تاريخ الشرطي السوري في لبنان. وأواصل التذكر والتفسير من حيث انتهيتُ عند عقد الثمانينات.

خسر الأسد أمام شارون حرب الاجتياح (1982). وكسب منه حرب الاستنزاف (82 ـ 1985). وجد الأسد وجنرالاته وحلفاؤه الدروز والشيعة والفلسطينيون في تداخل خطوط القتال فرصة سانحة لقنص الإسرائيليين ليلاً. كانت حرب الاستنزاف صامتة ومروعة. لا السوريون يعلنون عن عملياتهم، ولا الإسرائيليون يعلنون عن خسائرهم. انتهى العض على الأصابع بأن قال الإسرائيليون: آخ! لملموا قواتهم المستنزفة وفروا بها إلى الجنوب.

أنهت حرب الاستنزاف الحلم الصهيوني بـ «إسرائيل الكبرى». الاجتياح ممكن لكن الاحتفاظ باحتلال الأرض مستحيل. استقال شارون مهزوما ومدانا. فقد ثَوَّرَ الشيعة. حلت البندقية الشيعية المنضبطة محل بندقية الفوضى والارتجال الفلسطينية.

هنا يأتي دور الحماقة الأميركية في عملية غزو تذكر بالحروب الصليبية. أنزل ريغان قوات المارينز، لملء «الفراغ» الذي سوف تتركه القوات الإسرائيلية. اقتضى الجانب الآخر من حرب الاستنزاف أن يوفر الأسد لحلفائه الشيعة الدعم اللوجستي. اجتاح انتحاريو «حزب الله» معسكرات أميركا وأوروبا ومعها السفارة الأميركية. هرب «الصليبيون» الجدد (1984). لكن ريغان وقف قبالة الشاطئ ليقذف السوريين والدروز والفلسطينيين في الجبال بقنابل من زنة طن. كانت القنابل من «الدقة» بحيث أصابت القرى المسيحية المهجورة.

كان الإعلام السوري في بلاغته الإنشائية المعهودة جاهلا بحرب الاستنزاف، وعاجزا عن تفسيرها للسوريين وتعريفهم بدور رئيسهم فيها. لكن حافظ الأسد كان من نشوة نصره اللبناني، بحيث وقف في مؤتمر حزب البعث في منتصف الثمانينات، ليشيد علنا بمبدأ الشهادة (الشيعية الانتحارية)، ويتمنى لنفسه بأن يختم حياته شهيدا انتحاريا! منذ ذلك الحين، سلمت أميركا وأوروبا على مضض ضمني بدور «الشرطي السوري» في لبنان. لكن الأسد لم تكتب له الشهادة، فقد عاش ما يكفي «ليرتكب» نجاحات وإخفاقات وأخطاء أخرى في لبنان.

ظل إنهاء الحرب الأهلية الهدف الاستراتيجي للأسد في لبنان. على صعيد التكتيك، نجحت ديبلوماسيته في إكراه الرئيس أمين الجميل على التخلي عن صلحه المنفرد مع إسرائيل الذي فرضته أميركا عليه. ومع الإقرار بأن أمين السياسي غير شقيقه بشير الميليشياوي، إلا أنه كان رئيسا ضعيفا. لم يكن الجميل يسيطر الا على ملعب التنس في قصر بعبدا، تاركا الساحة لحلفائه وخصومه: ميشال عون، وسمير جعجع، وإيلي حبيقة، وآل فرنجية.

وهكذا، كان المشهد السياسي في أواخر الثمانينات أشبه بلوحة سيريالية. كان الأسد وحده قادرا على قراءتها وتجيير خطوطها وألوانها لصالحه: صبر الأسد على عجز الجميل المتردد. اخترقت مخابراته حزب الكتائب و«القوات». فشل «زلمته» إيلي حبيقة في زحزحة سمير جعجع، لكن أضعفه أمام حليفه ثم خصمه عون.

أنقذ عون حبيقة من حصار جعجع. لكن عندما يئس من مغازلة سورية لترئيسه بعد الجميل، أعلن عليها «حرب التحرير»! قصف عون اللبنانيين المسلمين الذين أراد «تحريرهم»! ثم تورط مع جعجع في حرب ضروس أنهت الحرب الأهلية بخسارة المسيحيين لها. فقد قتلت حرب جعجع ـ عون ألفي مسيحي، وجرحت خمسة آلاف، وتركت بصماتها المدمرة على المنطقة المسيحية (المحررة).

على الجانب الآخر من مسرح الثمانينات، لم يكن معسكر الأسد مريحا له. خرج عرفات من الباب وعاد من النافذة. عسكر مع قواته وزلمه بين السوريين في البقاع! لم يكن اللقاء ممكنا بين رجلين يتفقان في مكيافيلية السياسة، ويختلفان في مزاجية التكتيك: عرفات زارع للفوضى، والأسد لا يقبل بغير الانضباط والولاء المطلق له ولنظامه.

أخرج الأسد عرفات بالقوة من البقاع، فوجده يستقر في مخيمات طرابلس وبيروت وصيدا. لم يجدّ الأسد في ملاحقة عرفات. حرك ضده حلفاءه. لا يعرف السوريون أن حرب المخيمات (85 ـ 1986) كانت عذابا مفجعا لأشقائهم الفلسطينيين. كان المخيم قد بات وطنهم الأصغر الذين لا يعرفون غيره. عاشوا مرارة اليأس بين خرائبه. اقتتلوا في أزقته. وقاتلوا منه غزاتهم إسرائيليين كانوا، أو لبنانيين وأردنيين وسوريين.

كان «الغضب الآتي» هذه المرة شيعيا / فلسطينيا: حاصرت ميليشيا «أمل» و«الفتحاوي المنشق» أبو موسى المخيمات. قصف المهاجمون أشقاءهم بدبابات تي 55 السورية ومدافع الهاون الثقيلة. قتل شارون عبر حلفائه المسيحيين 900 فلسطيني أعزل في مخيمي صبرا وشاتيلا. حرب عرفات / الأسد تسببت في مقتل ألفي فلسطيني وجرح أربعة آلاف بمدافع ودبابات شيعة «أمل» والفلسطينيين المتحالفين مع سورية.

إذا كان عرفات كله «خطايا»، فحرب المخيمات التي دارت بالواسطة والوكالة كانت «الخطيئة» الكبرى لسورية في لبنان. لم يكن من خيار أمام الأسد سوى إخراج عرفات ليستريح ويستريح لبنان معه، غير أن الثمن كان كبيرا. تأثرت سمعة سورية كثيرا عربيا وفلسطينيا. حتى حليفها «حزب الله» وبخ شيعة «أمل» على حربها الفلسطينية. ثم خاض حربا شيعية ضدها مات فيها المئات، قبل أن تتمكن سورية وإيران من مصالحة الشيعة مع الشيعة.

لم تنته حرب الثمانينات. خرجت «أمل» منهكة من حربها الفلسطينية، لكنها سيطرت على بيروت الغربية (السنية) مستعينة باللواء السادس (الشيعي) في الجيش اللبناني الذي انفرط عقده. عندما ضاقت طرابيش السنة بميليشيا الشيعة، جاء دروز جنبلاط لنجدة السنة. عندما لقيت «أمل» الهزيمة، صعد الأسد الجبال من البقاع، وحطت قواته بسرعة في بيروت مرة أخرى لإنقاذ «أمل» نبيه بري.

جاء اتفاق الطائف السعودي (1989) بردا وسلاما على لبنان التسعينات، لكن «الشرطي السوري» الذي رسخ دوره في مخفره اللبناني، كانت أمامه فرصة خمسة عشر عاما أخرى «ليرتكب» مزيداً من النجاحات والأخطاء.

ظل الأسد يتحين الفرص لصيد عون حليف صدام وجعجع حليف صدام وإسرائيل. وأخيرا، حانت الفرصة عندما غزا صدام بغبائه الطموح الكويت. عقد الشرطي السوري صفقة جديدة مع أميركا: المشاركة في تحرير الكويت في مقابل الظفر بعون. أما جعجع فقد أودع سجن التسعينات عندما لم يعرف كيف يتخلص من «ماضيه» الإسرائيلي، وكيف يداري أعداءه السوريين وخصومه المسيحيين.

أكتفي بهذا القدر عن العلاقة السورية ـ اللبنانية، تاركا التطورات اللبنانية إلى أحاديث أخرى كلما اقتضت الحاجة. ربما كانت الصراحة مؤلمة ومرفوضة، لكنها كانت ضرورية لتفسير الأزمة بأمانة، ولتعريف الأجيال العربية الجديدة بها.