الرسالة السعودية ــ الفرنسية: لا لتأزم لبنان بعد الآن

TT

سيكتشف اللبنانيون والسوريون معاً ذات يوم ليس بالبعيد، أن سعة الصدر لدى أهل الحكم السعودي واعتماد الكلمة التي هي مثل الماء، الذي يطفئ حريقاً هي التي حققت ما بدا مستحيلاً تحقيقه، وإن زيارة ولي العهد النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني الأمير عبد الله بن عبد العزيز إلى الرئيس جاك شيراك، ثم الى الرئيس جورج بوش الابن، كانت من أجل محاصرة أزمة في بلد عزيز على قلوب الثلاثة، وعقولهم قد تتفجر بقوة البركان وتقذف من الحمم ما من شأنه جعل المنطقة تقترب من تجدد العنف مرة ثانية.

وإذا جاز الاجتهاد فإن ولي العهد رأى أن معالجة العقدة الفرنسية ـ اللبنانية ـ السورية أولاً من شأنها أن تساعد على ترويض الموقف الأميركي الحاسم والحاد من الموضوع اللبناني ـ السوري الذي يتجه نحو المزيد من التعقيد، وأنه في حال تبلورت صيغة مفهوم سعودي ـ فرنسي مشترك للوضع اللبناني الحكومي من جهة وللأزمة اللبنانية ـ السورية من جهة أخرى، فإن الإدارة البوشية لن تعترض على هذه الصيغة.. هذا اذا كانت لن تدعمها وذلك لأنها، على ما يجوز الاعتقاد، احيطت بها من خلال التشاور ولأنها صيغة بين الجانب السعودي الذي هو موضع الثقة من قِبَل الادارة البوشية، ومن الجانب الفرنسي الذي استُعيدت الثقة به من قِبَل هذه الادارة وإلى درجة الالتقاء على موقف موحد ازاء قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري والانسحاب السوري من لبنان واجراء الانتخابات في موعدها وهو موقف بدا راسخاً من خلال قرار مجلس الأمن 1559 وازداد رسوخاً من خلال القرار اللاحق 1595 والمتعلق بلجنة التحقيق الدولية في قضية اغتيال الحريري. وعند التأمل في طبيعة زيارة الأمير عبد الله إلى فرنسا وكيف انها كانت استثنائية بامتياز وكذلك قراءة تصريحات الأمير والبيان المشترك عن الزيارة، وما حواه هذا البيان من مفردات تتجاوز المعنى الدبلوماسي الى الصراحة التامة، يتضح للمراقب أن الزيارة كانت في الدرجة الاولى من أجل لبنان وسورية، وأن مفردات التعبير الفرنسي اقتربت من مفردات التعبير السعودي، وعلى أمل اقترابهما من مفردات التعبير البوشي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن البيان المشترك تضمَّن في موضوع الانسحاب السوري القول، والارجح لرغبة الأمير عبد الله، «إن الجانبين أخذا عِلْماً بالتزام سورية الانسحاب...» وليس «رحَّبا بالانسحاب»، إلاَّ انه في الوقت نفسه كان حازماً في موضوع السيادة والاستقلال للبنان، وكذلك في موضوع التحقيق في جريمة اغتيال الحريري ومعاقبة المتورطين وليس فقط الفاعلين، وهو أمر طبيعي لاعتبارات عامة لأن ترسيخ الاستقرار والسيادة يتفق مع روحية اتفاق الطائف الذي هو مسؤولية سعودية تجاه لبنان، ولاعتبارات شخصية كون الحريري صديقاً متميزاً وإلى درجة الأخوة للطرفين السعودي والشيراكي.

وعندما تسير الأمور في لبنان في الاتجاه التيسيري على حكومة نجيب ميقاتي، فهذا يعني ان نوعاً من الايحاء اتى من القمة السعودية ـ الفرنسية المحاطة بطبيعة محادثاتها الادارة البوشية ووجدت العقدة الحكومية من يفكها ببراعة رجال الدولة البعيدي النظر، وهو ما لم تحظ به العقدة العراقية، ليس لأن أهل العراق ليسوا من الحذاقة السياسية بمكان، وإنما لأنهم وضعوا الأمر في يد واحدة هي اليد الأميركية، ومَنْ يفعل ذلك، وإن مثقال ذرة تعباً وقلقاً وعنفاً، يره.

وهكذا فالقول بأنه لا تأزُّم في لبنان بعد الآن، وبالحدة التي كان عليها هذا التأزم تستند معطياته الى ما حدث وأوردناه كمؤشرات كان الوضع في لبنان يحتاجها، ثم جاءت بفضل همة صديقين تاريخيين لهذا الوطن المثخن بالجراح هما الأمير عبد الله بن عبد العزيز والرئيس جاك شيراك كل ما فعلاه هو أنهما قالا كلمة حق يراد بها التسوية، واستباق تفجير كان وارداً حدوثه في اي لحظة.

ومثلما انه لا تأزُّم بعد الآن في الوضع اللبناني وبالحدة التي كان عليها هذا التأزم، فإنه لا تماثيل بعد الآن لا في لبنان ولا في أي بلد عربي.. وبالذات التماثيل التي جرى نصبها تملُّقاً أو بفعل اصدار الأمر الذي لا يحتمل مناقشة. واللافت للانتباه أن عناصر من الجيش اللبناني وعناصر من حزب البعث (السوري) بدأت حديثاً فك تماثيل للرئيس حافظ الأسد ولنجله باسل، الذي قضى في حادث سيارة مجهول الظروف على طريق مطار دمشق وكان يومها في صدد السفر إلى المانيا. ومنذ اتفاق الطائف انتشرت في لبنان ظاهرة اقامة التماثيل للأسد الأب ولنجله البكر باسل، الذي كان الوالد عمل على تأهيله لكي يتسلم الحكم منه، خصوصاً بعدما شعر الوالد بأن وضعه الصحي الى تراجُع. ولوحظ أن التماثيل شملت كل المناطق اللبنانية، إضافة إلى إنشاء المراكز الصحية والثقافية والرياضية التي تحمل اسم باسل الأسد مقروناً بـ«الشهيد»، الأمر الذي يوحي بأن الابن قضى في عمل معاد استهدفه، ربما لقطع الطريق على ان تُواصل السلالة الأسدية الحكم في البلاد.

وقبل التماثيل كانت الصور الكبيرة الحجم، هي المعمول بها كما الحال في العراق الصدَّامي، حيث يتم تعليقها في اماكن استراتيجية من العاصمة بيروت وبعض المناطق مثل المطار والواجهة البحرية او مداخل العاصمة. وكانت هذه الصور مرفقة بعبارات الولاء والتمجيد للرئيس الأسد الأب، ثم أضيفت اليها عبارات مماثلة تتضمن الاشادة بالابن بشَّار بعدما شاءت الظروف ان يكون هو من يرث الحكم من الأب. وعقب الذي جرى لتماثيل الرئيس صدَّام حسين في العراق تكاثرت افتراضات مفادها ان الرئيس بشَّار سيغتنم الفرصة المناسبة، لكي ينهي ظاهرة الصور والتماثيل، لكنه تفادياً لتفسيرات العشيرة والرفاق، وبالذات لما قد يقال إنه ازال بنفسه تمثالاً لوالده أو لشقيقه وما ينشأ عن التفسير من صدمة نفسية لدى البعض الذين يقرأون الخطوة على عكس نظرة الرئيس بشَّار الى الأمر، ترك المسألة الى وقت آخر. ثم جاءت الانتفاضة اللبنانية وما تخللها من شحن سلبي للمشاعر ضد الحكم الأسدي وضد الوجود السوري العسكري والمخابراتي والعمالي في لبنان، تدفع ببعض العناصر المعادية او المنفعلة تكتب على الجدران عبارات ضد سورية وتحطم صوراً وتماثيل للرئيس الأب. وهذه الوقائع، اضافة الى اقتناع سابق لدى الرئيس بشَّار أوجبت الإقدام على ازالة تماثيل الأسد الأب وابنه باسل حيث اقيمت. وهذا ما حدث ويشكل سابقة في تاريخ التماثيل الرئاسية، حيث ان الرئيس بشَّار طلب رسمياً من المراجع اللبنانية الرسمية فك التماثيل ونقلها الى سورية. وقد تولت المهمة عناصر من الجيش اللبناني وعناصر من حزب البعث (السوري) فك تمثالين مهمين للأسد الأب: واحد على مدخل مدينة صور وآخر على مدخل مدينة بعلبك، وبذلك لم تعد هنالك تماثيل أسدية سورية في لبنان وبالذات تمثال باسل الأسد الذي جرى نصبه في نقطة استراتيجية على الطريق العام لبلدة شتورا وتمثِّل الابن الراحل على صهوة جواد. وفي أي حال ان الخطوة استباقية وكريمة وتبقى افضل من أن يصيب التماثيل الأسدية ما أصاب التماثيل الصدَّامية في العراق، وما سبق أن أصاب تماثيل لينين وستالين وماركس وكيم ايل سونغ وتشاوشيسكو. وبعد الآن لن يتطلع رئيس عربي إلى تخليد نفسه وهو حي وعن طريق مريديه أو انصاره وذلك بنصب تمثال له.

وبتغييب التماثيل الأسدية تبقى في لبنان المسلة المقامة على المدخل الجنوبي للعاصمة، عربون شكر للدور السوري وبضعة تماثيل لمبدعين أو لرموز سياسية لهم دور في الاستقلال والبناء. ومن هؤلاء رياض الصلح وبشارة الخوري وحبيب أبو شهلا ونَصَب رمزي لشهداء شنقهم السفاح التركي، وقريباً رفيق الحريري الذي سيكون تمثاله على اساس تكريم شهيد قضى من اجل ان يبقى الوطن ويتوحد الصف ويكتمل مشروع الإنهاض ويتلاشى الخوف ويضيق هامش التأزم ويتوارى القلق إلى حين.. أو إلى الأبد.