بيروت.. كمان وكمان

TT

يوسف شاهين على حق، وماجدة الرومي أيضا، وكذلك هي محقة الدراسات التي تشرح لنا بالأرقام ما قاله الاثنان معاً، حين أطلا في أمسية الاحتفال الكبير الذي أقيم، منذ أيام، وسط بيروت بمناسبة مرور 30 سنة على انطلاقة جرائم الحرب الأهلية. فالمخرج الكبير نظر ليلتها منتشياً، من على المسرح، إلى الجماهير الشبابية الغفيرة الملوحة بالأعلام والمشتعلة حماسة وحيوية، وقال متأثراً «اني أرى فيلماً لبنانياً، وما أشاهده من جمال يجب ان تصوره الكاميرا، فالعالم لا يستطيع ان يفهم روعة ما يدور هنا من دون السينما». اما المطربة القديرة ففي رأيها ان لبنان أكبر من «فيلم»، انه حالة «حلم». ومع ان الاثنين أصابا كبد الحقيقة، فإن الرأي الثالث يؤكد ان الانقلابات الصاروخية السرعة في بلد الأرز هي «علم» اجتماع بالدرجة الأولى، والسياسة تتبع. ومع الاعتذار الشديد، من المحللين الذين يحبون تفسير الظواهر كلها من خلال الخطابات السياسية، فإن الإحصاءات تتكلم هذه المرة.

وكي لا نقع في فخ البكائيات، وسرد عدد الفقراء والمعوزين الذين لهم كل الحق في إشهار سيوفهم في وجه الجائرين من السلاطين حين تحين الفرص كما هو حاصل الآن، نفضّل ان نتكلم على العشاق والمتيمين، إذ بات غالبية العرسان في لبنان يقتربون من سن الثلاثين ويتهيأون لمغادرة البلاد إثر عقد القرآن. وهذه هي فئة المحظوظين.

أما عن الباقين فهم في حال عجيب، إذ بسبب هجرة الشبّان، التي وصلت إلى 20 ألفاً في السنة الواحدة، وتحول الجمهورية الأبية إلى محمية نسائية، فإن كل المتوفر محلياً من جنس الذكور، هو شاب واحد لكل أربعة من الشابات لمن هن دون الثلاثين، وبعد هذه السن تتنافس كل ثمانية منهن على رجل واحد بقي غير متزوج في البلاد. وتعلق إحدى الصحافيات على هذه المحنة التي حرمت المرأة من الرجل، حرباً بالموت وسلماً بالرحيل، قائلة: «ان هذا لأسوأ مما عاشته ألمانيا وروسيا بعد الحرب العالمية الثانية».

وإذا كان تحرر المرأة في أوروبا، وانقلابات القيم الاجتماعية، تعزى في كثير منها إلى تضاؤل عدد الفحول نسبة إلى الحريم، فإن هذا الواقع نفسه جعل نساء لبنان في حلّ من التزام مقاييس الأمهات والجدات، اللواتي أذعنّ بدورهن، وغيرن رأيهن رفقاً بالحفيدات، وآمنّ بأن خلاص الفتيات الطالعات، هو في اعتمادهن على سواعدهن أو مفاتنهن، وهذا في الحالتين يستلزم إطلاق حريتهن. فليس قليلاً ان تبلغ نسبة العنوسة في السنوات الثلاث المقبلة 60%، ليسجل اللبنانيون، بذلك الرقم القياسي عربياً.

وأمام فردية المسار والمصير لغالبية المواطنين، فإن الإعلانات خففت من توجهها للجماعات والعائلات، وخاطبت الذات الواحدة الباحثة عن هواها. فإحدى شركات الجوال اعتمدت عبارة: «كل واحد إلو كلمتو»، والواحد بحسب الصورة هو شاب أو صبية أو حتى طفل صغير. وإعلان آخر تلفزيوني هذه المرة يقول: «أعد إحياء وسط بيروت على طريقتك»، والمسألة لا تنتهي هنا، إذ يريك الشريط امرأة تدخل احد محلات الأحذية وتختار فردة رجالية كبيرة، تضع فيها قدمها الصغيرة وتبدأ في ربط شريطها، بينما يملأ مشهد القدم النسائية في الحذاء الرجالي كل الشاشة. وفي سلسلة إعلانات الإحياء هذه، يمكنك أيضاً مشاهدة رجل يجلس أمام منضدة ويضع كفيه عليها وتبدأ إحداهن بطلي أظافره، واحدها بعد الآخر، لحظة لم نعد نرى غير أظافر الشاب وهي تتلون بالأصباغ. لم نسمع أي فحل لبناني يعلّق مستهجناً أو معترضاً، فالصورة جاءت ترجمة فنية وبليغة لليومي المعاش. حيث بات تداخل الأدوار محتوماً. فغياب الرجل او عجز جيبه المستدام، يجعل الرجولة (عارية من حق القوامة) والأنوثة (متبرمة من أسطورة الهامة والهالة)، وكلاهما يهتزان ويتزلزلان، بحثاً عن صيغة جديدة تحفظ للحياة بريقها.

مصيب هو «فيكتور هوغو»، حين قال ذات يوم «الحرب يصنعها الرجال، والسلام تشيده الأفكار». والفكرة البناءة الطالعة بأعجوبة من قلب الدمار، لا جنس لها ولا لون. انها لا أنثى ولا ذكر، مجرد هجانة مجنونة ومتعطشة للبقاء.

لهذا لم يعد مستغرباً ان يقترح اللبنانيون لرئاسة الوزارة امرأة بكل تلقائية ومن دون عقدة الجنس السلطوية، أو رجلاً لا يأتي من عائلة سياسية معروفة على الطريقة القبلية.

لا لم ينتحر زمن العصبيات بعد على مذبح الانقلابات الأنثوية البيضاء، لكن هشام شرابي يخبرنا جازماً في كتابه الجميل «البطريركيه الأبوية» أن القبلية عدو الحرية النسوية. وبالتالي فالزلزال المجلجل للحرب وما بعدها، وخروج النساء بالجملة من قمقمهن بحثاً عن رزقهن، سيجعل التغيير حتمياً.

فقد بات معروفاً ان 94% من الشباب اللبناني يرفض الفصل بين الجنسين في الجامعات أو حتى المدارس، ونصف الجيل الجديد يشرب ويدخّن ويعشق السهر، والانترنت وسيلتهم المفضلة للمعرفة، وعلاقتهم بالكتاب باتت شبه معدومة.

انه لبنان الجديد، بخيره وشره، بحلاوته وحنظلية طعمه، وهو أقرب إلى «الحلم» منه إلى «الكابوس»، ويوم تصور الكاميرا تبدلات الأمزجة والأهواء، بكل أبعادها الاجتماعية، بمقدورها ان تكون الرافعة للفيلم المشتهى، لا عن لبنان وحسب، بل عن ملحمة مقاومة العربي لجموده وسكونه وجليدية قيمه على مدى 200 سنة. الحركة بدأت، «وفي الحركة بركة»، وليس لبنان إلا أول الغيث...