عن الاتفاق والاختلاف بين الأديان الإبراهيمية

TT

قرأت بعناية مقالة الإمام الصادق المهدي في الشرق الأوسط بتاريخ 9 أبريل(نيسان) 2005، وهي مقالة تحتاج إلى تعليق عليها نظرا لأن صاحبها شخصية دينية وسياسية معتبرة ومثقف مرموق.

جوهر مقالة الصادق المهدي «أن هناك تنافسا حادا بين الإسلام والمسيحية»، وفي إطار هذا التنافس «فالعيب الأكبر في المسيحية، هو أنها لا تعترف بالإسلام ديناً».

هذا الطرح الذي طرحه الإمام الصادق المهدي هو المشكلة الحقيقية، التي تؤدى الى تراجع الحوار والتفاهم وتعمل على بناء حواجز بين البشر، وكما يقول الراحل البابا يوحنا بولس الثاني: «العالم يحتاج إلى جسور وليس إلى جدران»، وهذا ما حدث في مؤتمر الدوحة، حين طالب الشيخ القرضاوي البابا شنودة بالاعتراف بالإسلام، قبل الحديث عن أي حوار.

هناك بديهات يعرفها الإمام المهدي من أن الأديان عبارة عن قيم Values ومعتقدات Believes، ويمكن أن نضيف بالنسبة للأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام، أن بينها قيما مشتركة وملامح مشتركة.

من الملامح المشتركة، أنها أديان توحيدية، وأنها أديان إبراهيمية، وأنها أديان كبرى، وأنها أديان عالمية، وأنها أديان كتابية، وأنها أديان نشأت في الشرق الأوسط.

أما القيم المشتركة أو القيم الكبرى في الأديانMacro Values مثل الصدق، والأمانة، والعدل، واحترام الحياة الأدمية والتراحم الانساني.. وغيرها من هذه القيم. فأولاً هي الأساس فيما يتعلق بالحياة المشتركة بين البشر، وهي الأساس لأنها تنعكس على السلوك الإنساني اليومي وتشكله. وهي الأساس الذي يجب أن يجري حولها الحوار الحضاري، لأن ذلك من شأنه بناء جسور جديدة وتعميق القائم منها بدلا من توسيع الفجوات. وهي الأساس لأن المقاصد الأساسية للرسالات هو كل ما يتعلق بالخير والصلاح والعدل ومصلحة البشر.

أما فيما يتعلق بالعقائد، فهي أولا تمثل علاقة شخصية بين الإنسان وخالقه. وهي ثانيا تمثل مرحلة مركبة من التفكير الإنساني، فالمعروف أن شخصية الفرد تبدأ بالميل وتنتهي بالاعتقاد، ومن ثم فإن تغييرالعقيدة عملية شديدة الصعوبة، وإقناع فرد بخطأ أو صدق عقيدته، هو في الأغلب مسألة جدلية عقيمة. وهي ثالثا يجب ألا تخرج من الإطار الفردي إلى المستوى الجماعي، وإلا فستكون محل تصادم مجتمعي وربما كوني. وهي رابعا قد يساء استخدامها في الاستعلاء الديني، ونفي الآخر وتهميشه وعزله واحيانا قتله، وعند الحد الادنى خلق مشاعر سلبية تجاه الآخر المختلف دينيا.

أما إذا تكلمنا عن الاختلافات بين هذه الأديان وردا على ما تناوله الصادق المهدى:

أولا: مسألة عدم الاعتراف هي مسألة متبادلة بين أتباع الأديان الثلاثة، فكل دين ينفي ما بعده ويعترف بما قبله. وحتى مسألة الاعتراف هذه تخضع لمواصفات خاصة جدا، تجعلها في النهاية والواقع تنفيه. فاليهودية لا تعترف بالمسيحية ولا بالإسلام، وما زالوا ينتظرون المسيح القوي القادر على أن يخلصهم من أعدائهم بالمفهوم العسكري. والمسيحية تعترف باليهودية، ولكن اعتراف فى الوقت ذاته أن رسالة المسيح قد تجاوزت اليهودية، وإذا لم يدخلوا المسيحية فمصيرهم الهلاك. الإسلام أيضاً يعترف بما قبله، ولكن بمواصفات خاصة، فإن رسالة النبي محمد هي الرسالة الخاتمة الجامعة، ومن ثم من لا يقبلها لن يرى الجنة، «ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه». وإذا تكلمنا عن المسيحية على سبيل المثال نجد أن الأركان الثلاثة المتفق عليها بين الكاثوليك والبروتوستنت والأرثوذكس هي ألوهية المسيح، وصلبه وقيامته، ووحدة وعصمة الكتاب المقدس، هذه الركائز الثلاثة الأساسية التى تقوم عليها العقيدة المسيحية ينفيها الإسلام. من هنا فإن مسألة النفي في العقائد مسألة متبادلة بين الأديان الثلاثة، ولا ينفرد بها دين دون غيره. واذا كنت تريد من الآخر ان يؤمن بعقيدتك كما هى بكل تفاصيلها، فما معنى الاختلاف أذن؟

ثانياً: حتى صفات الله نفسه، كل دين ركز على صفات معينة لله بما يتماشى مع رسالته، فاليهودية ركزت على الإله المقاتل رب الجنود حامي إسرائيل، وركزت المسيحية على الإله الأب المحب الراعي الفادي للبشرية، في حين ركز الإسلام على الإله القوي الجبار العادل وباقي الأسماء الحسنة المعروفة والتي لا تتضمن صفات الإله، التي جاءت في اليهودية والمسيحية.

ثالثا: وفي العلاقة مع الإله كل دين يؤكد على فكرة نفي الآخر بخلق خصوصية، خاصة بينه وبين الله، فاليهود شعب الله المختار، والمسيحيون هم أبناء الله المفديون المخلصون، والمسلمون هم المصطفون، فالدين عند الله هو الإسلام ومن يبتغي غيره فلن يقبل منه.

رابعا: في تاريخ الأديان الثلاثة ليس لدين أن يستعلي على الآخر فيما يتعلق باستغلال هذا الدين في ممارسة العنف، وقد عانت البشرية معاناة شديدة نتيجة ممارسة العنف والقتل باسم الله فى الأديان الثلاثة.

خامساً: إن الكلام عن الانسجام والتوافق والسلام فى ظل الاحادية الدينية والدين الواحد هو نوع من السرابMirage الذى لم يحدث ابدا منذ فجر التاريخ والى اليوم، شاهدا على ذلك الاقتتال الدامي داخل كل دين على حدة، والذى لم ينته بعد، حتى وقتنا الحاضر.

سادسا: أعتقد أن المسلمين مقصرون بشكل أكبر من غيرهم في إبراز الجانب المتسامح في دينهم فقد أحصى صديقي المفكر الإسلامي أكثر من ألف آية في القرآن تدعو لحرية الرأي والفكر والعقيدة والضمير، وتؤكد على المسؤولية الفردية للإنسان أمام الله، ومع هذا فإن هذا الجانب لا يعرفه إلا القلة.

وخلاصة القول إن المجتمع المعاصر أصبح يحكمه ما يمكن تسميته بـ«الميثاق الإنساني» وهو يعكس عالمية القيم، وخصوصية الثقافة والعقائد الإيمانية، ووحدة الضمير الإنساني. ومن يوافق على هذا الميثاق المفترض يدخل إلى نادي الإنسانية Human Club الرحب والواسع لكل خلق الله أبناء آدم وحواء.

أما الكلام عن من يعترف بعقائد من؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ وعشرات الأسئلة من هذا القبيل فلا معنى لها ولا قيمة لها داخل هذا النادي الإنساني، وإنما هي فقط أسئلة طرحت آلاف المرات عبر التاريخ الطويل وتسببت في مآسي إنسانية مروعة، وياللأسف يكررها البشر في كل زمان ومكان كأحد أهم أدوات الحشد والقتال والبغض والكراهية.

في الحياة المشتركة بين البشر لا قيمة لإيمان الغير بخصوصيتى العقيدية، ولكن القيمة الأساسية في تقبل الغير لي بمعتقداتى كما هي، وكما أؤمن بها، وألا يؤثرهذا الاختلاف على الاستمتاع بكل ما هو مشترك بين الناس، طالما أن هذه الخصوصية الإيمانية لا تشكل أيديوولوجية عداء تجاه الآخر تسعى لهدم وإفساد كل ما هو مشترك وجميل بين مخلوقات الله.

[email protected]