ما لا تجده في دليل التلفزيون!

TT

من حسن حظ مذيعي الأخبار في فضائياتنا أنهم لم يعيشوا في عصر ما قبل الإسلام. إذ لن يعقل أن يتجاوز عتاولة بني عبس وتغلب عن وجه يطل عليهم كل يوم، ليخبرهم بمصائب الدنيا ونوائب الأنام، ثم لا يكون هذا الوجه مضرب المثل في التشاؤم والنحس لدرجة تتزحزح فيها مكانة أم قشعم التاريخية. الغريب أن المذيع(ة) لا تنقصه الجرأة بعد أن يستعرض أمامنا كوارث الحروب والانهيارات الاقتصادية أن يخاطبنا بابتسامة باردة قائلا: «ابقوا معنا» أو «نلقاكم بعد ساعة»!

لكن المشكلة الحقيقية لا تتوقف في بجاحة المذيعين الذين يقتاتون بالثرثرة عن نكبات البشر، وإنما في أن فضائياتنا زادت فيها جرعة الاستخفاف بمشاعر مشاهديها لحدٍ أصبحت لا تتورع فيه عن عرض مجموعة من الإعلانات التجارية مباشرة بعد استعراض آخر آخبار ضحايا شلالات الدماء الراعفة مثلا ..

لماذا؟

أعني بلماذا.. كيف تمر علينا صور الأراضي المقوضة والجثث المتراكمة وروائح الأوبئة.. ثم نستسلم لمشهد عابر عن أحد منتجات الحليب أو آخر نكهات معجون الأسنان أو شماغ ذي بصمة جديدة ..

ربما كانت هذه هي فلسفة الإعلان..

كأن المعلن يريد أن يقول لنا إنه ليس ثمة داع للاكتئاب على الضحايا ولا ينبغي للكدر أن يتسلل للقلوب من جراء اللوحة السريالية الحزينة التي ترسمها تلك الأخبار.. فالجميع موعود بالسعادة والأخبار السارة.. ففي خلال نصف دقيقة سيحين موعد البهجة والانشراح عندما نعرف أن بإمكان أسناننا أن تكون أكثر بياضا!

المرء الذي يقضي ثلاث ساعات أمام التلفزيون يوميا يشاهد في المعدل أكثر من عشرة آلاف إعلان تلفزيوني في السنة. بعض هذه الإعلانات صريح وبعضها فكاهي، ومنها ما يعتمد على الدهشة ومنها ما هو مسروق من إعلانات أخرى (مترجم إذا أردنا أن نكون أكثر دبلوماسية)، ومنها ما هو تدليس وتحايل أيضا. لكن معظم هذه الإعلانات ـ على الرغم من اختلافها الظاهري ـ تشترك في محاولاتها إقناع المشاهد بأنه «عالة» مفتقر للجاذبية وينقصه القبول الاجتماعي، وأن حياته عرضة للعُـقَد إذا لم يَتَنَبـّـه من غفلته ويتتبّع حبل النجاة الإعلاني الذي يضمن له بأن كل مشكلة قابلة للحل.. وقابلة للحل بسرعة أيضا.. وأن هذا الحل يكمن في معرفة مركب كيميائي أو شامبو أو آلة دخلت السوق مؤخرا تزيل الشعر الزائد بالليزر. بل حتى القنوعين الذين لا تهمهم قشرة الرأس ولا يعبأون بتقادم موديلات سياراتهم ولا يتكالبون على المحال التجارية فهؤلاء تخاطبهم الإعلانات بوسائل أكثر راديكالية تتمثل في تصوير ألوان الجحيم الذي سيواجهه أحدهم إذا لم يستخدم أحد المنتجات.

يبدو واضحا أن بعض المعلنين لا يعيرون اهتماما بمدى صحة منتجاتهم بقدر اهتمامهم بمدى حاجة المستهلك وقدرتهم على إقناعه بهذه الحاجة. وهذا ما يبرر اهتزاز معادلة الاقتصاديين وانتقالهم التدريجي من العناية بالأبحاث الجادة لتطوير المنتج إلى التركيز على الأبحاث المتخصصة بتسويقه. وإذا كان الإسراف في تسويق المنتج على حساب تحسينه يعد خطيئة في المجتمعات الصناعية، فإنه قد يصبح من الموبقات في بلادنا حيث يتكلف الوكلاء مبالغ طائلة في سبيل التسويق من دون أي إنفاق يذكر على الأبحاث المتخصصة بالتصنيع والانتاج.

ألا تقدر شركة من شركات المشروبات الغازية العالمية ـ مثلا ـ أن تطور مشروباً يحمل نفس الطعم ، لكن مع تلافي أضراره على المعدة والجهاز التنفسي وعظام الأطفال والبنكرياس، بدلا من إهدارها ملايين الدولارات على ديفيد بيكهام كي يكرع هذا المشروب أمام الشاشات؟ قد يبدو هذا الكلام منطقيا.. لكن منذ متى كانت الأعراف التسويقية تلقي للمنطق أي اعتبار؟ فدليل برامج التلفزيون لا يخبرنا أبدا عن ماهية الإعلانات التي ستفاجئنا رغم استهلاكها لأكثر من خمسة في المائة من أوقات العرض.. وهذا ما يجعل هذه الإعلانات فعالة.. فهي تتميز بخفائها وقدرتها على الانسياب ودغدغة العقل رغم أنها لا تخضع للتحليل المنطقي.. فإن المشاهد قد يحب إعلانا.. وقد يكرهه.. لكنه لا يملك أن يناقش صوابه أو يدحض خطأه.. خصوصا أمام قدرة الإعلان على حشد الفن والموسيقى والديكور والصور والمشاهير في دراما متكاملة .

إنني لا أعارض ـ أبدا ـ حاجة المرء لتطوير نفسه وتحسين قدراته وزيادة جاذبيته.. لكن من الظلم أن نتجاهل ثقافة الإنسان الفاتنة وأنامل لغته وبدهيته وذاكرته التي تمس قيثارة السماء.. ونستسلم ـ في المقابل ـ لتسطيح الإعلانات التي تصرّ على ارتباط جاذبية الرجل في شكل الشماغ، الذي يرتديه، أو نوع القهوة التي يتناولها وتختصر سحر المرأة في لون عدساتها وماركة مكياجها!

* أكاديمي سعودي في كندا

[email protected]