طهران تراهن على سقوط القومية العربية

TT

من الذي حرّك عرب الأهواز في ايران في هذا الوقت بالتحديد؟ بالطبع ليست فضائية «الجزيرة» التي اتهمتها طهران وعاقبتها بإغلاق مكاتبها، ذلك ان عرب الأهواز يتحركون منذ سنوات من خلال بيانات، تصلني باستمرار، لكن تحركهم على الارض ما كانت تنتظره ايران في هذا الوقت الذي تراهن فيه على التغييرات الحاصلة في العراق والتي تعتبرها تصب في مصلحتها، من ناحية دخولها الى الشرق الاوسط الجديد عن طريق بغداد، وايضا ان ما يجري يؤخر، بنظرها، الاستراتيجية الاميركية التي حددت طهران كهدف ثان، بعد بغداد وقبل دمشق.

عندما انتخب جلال الطالباني رئيسا جديدا للعراق كان الرئيس الايراني محمد خاتمي اول المهنئين لـ «الاستعراض الانتخابي الرائع»، وعرض استعداد ايران للتعاون معبراً عن تفاؤله بقيام عراق آمن وحر ومستقل، وان هذا يتحقق «من خلال يقظة ووحدة العراق ككل». كما عبر خاتمي عن ارتياحه كون العملية الديمقراطية في العراق تأخذ مجراها «من دون أي تدخل خارجي».

واكثر ما لفت، كان الارتياح الذي عمّ التعليقات الصحافية الايرانية بانتخاب الطالباني رئيسا، اذ كتبت «طهران تايمس» ان بغداد حررت نفسها «من المناخ العروبي الشوفيني» وتخلصت من «وهم القومية العربية وفكرة ان القومية العربية هي حجر الزاوية للوطنية». وشددت الصحيفة في تعليقها على التقارب ما بين الاكراد والشيعة كضحايا الآيديولوجية البعثية والقومية العربية.

كما حيّت صحيفة «ايران دايلي» الطالباني كأول رئيس غير عربي في العراق، واعتبرت التضامن الكردي ـ الشيعي «تطورا مهما لصالح طهران» ونصحت العرب السنة بالقبول بالحقائق على الارض.

لقد جاء تحرك عرب الأهواز في الوقت الذي وجدت فيه طهران انها تقف وواشنطن في زاوية واحدة وهي دعم الحلف الشيعي ـ الكردي في العراق، على امل ان يسهل لها اخيرا الاتصال المباشر مع الولايات المتحدة، هي التي ما توقفت عن هذه المحاولات منذ الحرب على العراق رغم كل التصريحات اللاذعة ضد واشنطن. ويلفت سياسي بريطاني الى الكلمة التي القاها وزير الخارجية الايراني كمال خرازي في ايلول (سبتمبر) الماضي في الامم المتحدة، حيث اعتبر اميركا دولة خارجة على القانون وطالب بانسحاب سريع لقواتها من العراق وتقوية دور الامم المتحدة، ثم انهى كلمته: «ان استقرار العراق من اولويات الأمن الايراني». ويضيف، وراء هذه الكلمات كانت ايران تستعد للتأقلم مع الحكومة الانتقالية في العراق التي كان يرأسها اياد علاوي، ثم بدأت توسع من امتداد شبكتها حتى المناطق الكردية في العراق، ورأت انه بتنويع مراكز نفوذها فيه لا بد وان تصبح عاملا لا يمكن تجاهله، يذكر بدورها الاساسي في حرب طاجكستان وفي افغانستان. ويلاحظ محدثي كيف ان كبار الشخصيات العراقية زاروا طهران بدءا من الزعيم الكردي مسعود البرزاني.

لكن، ظلت طهران قلقة لعدم وضوح المعالجة الاميركية للوضع في العراق، وبدأت تطرح شكوكها عبر تعليقات في الصحف الايرانية تتساءل عن جدية اميركا في اجراء انتخابات عراقية، وعما اذا كانت هي التي تسمح بتسلل المقاتلين العرب الى العراق، او عما اذا كانت تعمل سرا بالاتفاق مع الانظمة العربية لمنع العملية الديمقراطية في العراق التي ستحمل الشيعة الى سدة الحكم في بغداد.. كما تساءلت الصحف الايرانية في الاشهر التي سبقت اجراء الانتخابات في العراق عما اذا كان هدف واشنطن تقسيم العراق او وضع شيعته ضمن مملكة هاشمية لمواجهة النفوذ الايراني المتزايد في النجف؟

وفي 24 تشرين الثاني (نوفمبر) كتبت صحيفة «طهران تايمس»، ان المشاركة الفعالة لرجال الدين الشيعة في الحياة السياسية والاجتماعية في العراق تعرض مصالح اميركا للخطر في المنطقة، وحذرت من محاولة اعادة البعثيين «اصحاب النزعات القومية العربية» الى مراكز حكومية.

وعندما استقبل خاتمي في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) نائب الرئيس العراقي آنذاك ابراهيم الجعفري (رئيس الحكومة الحالي) حذره من اعطاء اي دور لبقايا النظام السابق، وشدد على ضرورة اجراء الانتخابات في موعدها ومواجهة تدخل حكومات الدول العربية.

وكانت طهران تعتبر ان بعض الدول العربية تعمل لتأجيل الانتخابات الى فترة غير محددة، لأنه حسب ما كتبت «طهران تايمس» «ان فوز الشيعة في الانتخابات سيثير تساؤلات حول شرعية الحكومات العربية غير المنتخبة، على المدى الطويل».

لكن، نقطة التحول الرئيسية جاءت مع الرسالة التي وجهها اسامة بن لادن في كانون الاول (ديسمبر) الماضي الى أبو مصعب الزرقاوي يكلفه فيها بزعامة القاعدة في العراق، فاستغلت الصحف الايرانية تلك المناسبة لتلفت نظر واشنطن الى «الحلف غير المقدس بين الارهابيين»، وتذكرها بأن الشيعة، وحسب تاريخهم، يرفضون العنف وان لا علاقة لهم الآن بالقاعدة، «وان على واشنطن ان تعتبرهم حلفاءها في مواجهة الارهاب»، ونصحتها بعدم الاصغاء للتشويهات التي ينشرها «بعض الحكام العرب الذين يضخمون من خطر الشيعة لأنهم يجعلونها تخطئ في تحديد اعدائها».

وارتاحت ايران ومالت نحو الايجابية في تفكيرها عندما اصر الرئيس الاميركي، جورج دبليو بوش، على اجراء الانتخابات العراقية في موعدها في 30 كانون الثاني (يناير)، وركزت في سياستها تجاه العراق على ثلاثة امور: ان تبذل جهدها لتكون الانتخابات شرعية، وهذا يعني مشاركة اكبر عدد من الناس، ثانيا: ظلت تذكر الشيعة العراقيين بعدم تفويت الفرصة التي ستوصلهم الى الحكم، وكانت مطمئنة لالتفافهم حول آية الله علي السيستاني مما يعني مشاركة على مستوى واسع، لكن، وحسب ما يقول محدثي البريطاني، ان طهران في تشجيعها الشيعة على المشاركة في الانتخابات كانت تتوقع ان يتخلوا عن هويتهم المرتبطة بالقومية العربية لصالح الهوية العراقية، وهذا التحول سيكون له التأثير الكبير على المشهد السياسي في المنطقة، ويضيف، ان التحذيرات المتشائمة التي اطلقتها الدول العربية وتساؤلاتها حول شرعية الانتخابات، عززت الحسابات الايرانية، بان الخريطة السياسية العربية في المنطقة لا بد ان تتغير بعد الانتهاء من الانتخابات العراقية.

ويتساءل محدثي: ما هي القومية العربية من دون العراق؟ لقد فتحت بوابة نحو شرق اوسط جديد مكون من دول قائمة على انتماء شعوبها، كل الى وطنه فقط ويحمل هوية الوطن الآتي منه، ولن يكون الشرق الاوسط الجديد محملاً بأثقال القومية العربية!

اما الامر الثالث، الذي ركزت عليه ايران، فكان حث الشيعة العراقيين على عدم الرد على هجمات المقاتلين السنة، وشددت عليهم بأن لا يحيدوا عن الهدف الاساسي وهو ان تجري الانتخابات من دون اي تعكير من جانبهم.

اضافة الى مراقبتها عن كثب الوضع في العراق، من الملاحظ ان الموقف الايراني تجاه القضية الفلسطينية قد لان، فإيران توقفت عن الادلاء بتصريحات استفزازية ضد اسرائيل، ثم ان خاتمي لم ينف «محادثته» القصيرة مع الرئيس الاسرائيلي موشيه كاتساف، اثناء تشييع البابا يوحنا بولس الثاني، إلا بعد اربع وعشرين ساعة، وجاء النفي غامضا، لأن ايران لا تريد ايضا بأن تزحزحها هذه المحادثة العابرة (!) عن رغبتها في تقديم نفسها بانها قادرة ايضا على لعب دور بناء تجاه الفصائل الفلسطينية وتجاه حزب الله في لبنان.

لكن، هل كل هذا يعني ان تقاربا محتملا سيقوم بين واشنطن والنظام الحالي في ايران؟ يجيب محدثي: ان تفكير القيادة الايرانية اليوم يشبه كثيرا تفكير صدام حسين بعد انتهاء الحرب العراقية ـ الايرانية، انه تفكير توسعي من قبل دولة منتجة للنفط، «يجب ان لا ننسى النفط في اي حالة»، ويضيف: «ان ايران تحتل موقعا استراتيجيا على الجبهة الشمالية للخليج الفارسي، وهي في وضع يهدد منابع النفط في السعودية والكويت والعراق والامارات العربية المتحدة».

ولا يغيب عامل النفط عن حسابات الايرانيين، ولمنع اي هجوم اميركي محتمل عليها، فقد هددت ايران باغلاق مضيق هرمز وعرقلة شحن النفط في منطقة الخليج، اذ قال محسن رضائي امين عام مجلس تشخيص النظام في الاول من آذار (مارس):«ان اي هجوم على ايران، سيهدد السعودية والكويت، وبكلمة اخرى، كل نفط الشرق الاوسط».

ان واشنطن تنتظر اجراء الانتخابات الرئاسية في ايران، ولم تنس من هي الدول التي ذكرها الرئيس بوش ضمن خانة «تحالف الشر». ومع تحرك الاهواز ذكر احدهم متهكما، ان وزارة الدفاع الاميركية «نسيت» ان تنزع كل الاسلحة من ميليشيا «مجاهدين خلق»، ويفكر بعض كبار المسؤولين الاميركيين في استعمال «مجاهدين خلق»، كما استعملت واشنطن التحالف الشمالي ضد الطالبان في افغانستان، وقالت كوندوليزا رايس ان الملف النووي الايراني سيقدم الى مجلس الأمن بعد انتخابات الرئاسة الايرانية. ان التحركات الايرانية في العراق والتحركات داخل ايران، يمكن تشبيهها، مع الفارق، بالهدوء الذي يسبق العاصفة!